الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب  إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين  وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون  إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين  قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين  قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين  وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب  ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد  إن [ ص: 244 ] تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم  لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير  

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل: يوم يجمع الله الرسل الآية: انتصب اليوم بفعل محذوف على تقدير: احذروا واذكروا يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم قال الكلبي: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى المسألة من الله للرسل: التوبيخ للذين أرسلوا إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا لا علم لنا قال ابن عباس: إن للقيامة زلازل وأهوالا حتى تزول القلوب عن مواضعها،  فإذا رجعت القلوب شهدوا لمن صدقهم وعلى من كذبهم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، قالوا: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى ابن الأنباري، عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا: معنى الآية لا حقيقة لعلمنا إذ كنا نعلم جوابهم وما كان من أفعالهم وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا، وإنما الجزاء يستحق بما يقع به الخاتمة مما يموتون عليه، فلما خفي عليهم الذي ماتت عليه الأمم لم يكن لعلمهم حقيقة، فقالوا: لا علم لنا .

                                                                                                                                                                                                                                      يدل على صحة هذا التأويل قوله: إنك أنت علام الغيوب أي: أنت الذي يعلم ما غاب ونحن نعلم ما نشاهد، ولا نعلم ما في البواطن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 245 ] قوله: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم مفسر في سورة البقرة وآل عمران إلى قوله: وإذ كففت بني إسرائيل عنك أي: منعتهم عن قتلك إذ جئتهم بالبينات يعني: ما ذكر في هذه الآية من معجزات عيسى عليه السلام، فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين أي: ما هذا الذي جئت به إلا سحر.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ: إلا ساحر أشار به إلى الشخص، يعني: عيسى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإذ أوحيت إلى الحواريين قال عامة المفسرين: أي: ألهمتهم، كما قال: وأوحى ربك إلى النحل أي: ألهمها وقذف في قلوبها، وباقي الآية ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك قال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله، ولا يدل قولهم: هل يستطيع ربك على أنهم شكوا في استطاعته، وهذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، لكنه يريد: هل يسهل عليك؟ وهل يخف عليك؟ وكذلك في الآية: هل يقبل ربك دعاءك، وهل يسهل عليك إنزال المائدة؟ وقرأ الكسائي: تستطيع بالتاء، ربك نصبا على معنى: هل تستطيع سؤال ربك، ومرادهم بالاستفهام: التلفظ في استدعاء السؤال، كما تقول لصاحبك هل تستطيع كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلفظ.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 246 ] قال ابن عباس: قال عيسى لأصحابه: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم لا تسألون شيئا إلا أعطاكم.

                                                                                                                                                                                                                                      فصاموا ثلاثين يوما، ثم قالوا: يا معلم الخير، قد فعلنا الذي أمرتنا، فسل من أمرتنا أن نصوم له أن يطعمنا، فذلك قوله: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      والمائدة: الخوان بما عليه من الطعام.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: عيسى: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: قالوا نريد أن نأكل منها أي: نريد سؤال المائدة من أجل هذا، وتطمئن قلوبنا: تزداد يقينا، وذلك أن الدلائل كلما كثرت قويت المعرفة في النفس ونعلم أن قد صدقتنا في أنا إذا صمنا ثلاثين لا نسأل الله شيئا إلا أعطانا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ونكون عليها من الشاهدين أي: نقر لله بالوحدانية ولك بالنبوة من جهة ذلك الدليل الذي نراه في المائدة، فدعا عيسى، وقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا أي: نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه عيدا، نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وآية منك: دلالة على توحيدك وصحة نبوة نبيك وارزقنا: عليها طعاما نأكله وأنت خير الرازقين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم أي: بعد إنزال المائدة فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين يعني: جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: فهذا العذاب جائز أن يعجل لهم في الدنيا، وجائز أن يكون لهم في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في نزول المائدة:  فقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، وإن القوم لما سمعوا الشرط في [ ص: 247 ] قوله: فمن يكفر بعد منكم استعفوا، وقالوا: لا نريدها، وهذا أيضا قول مجاهد.

                                                                                                                                                                                                                                      والصحيح أنها نزلت، قال ابن عباس: نزلت الملائكة بمائدة من السماء عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي: نزلت وعليها خبز ورز وبقل.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو منصور البغدادي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن السراج، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا الحسن بن قزعة، حدثنا سفيان بن حبيب، عن سعيد، عن قتادة، وعن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخافوا وادخروا، ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير"  وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس الآية، هذا استفهام معناه التوبيخ لمن ادعى ذلك على المسيح، ويكذبهم المسيح فيكون ذلك توبيخا لهم، وهو قوله: قال سبحانك أي: برأتك من السوء، ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي: لست أستحق العبادة فأدعو الناس إليها، إن كنت قلته فقد علمته لأنه لا يخفى عليك علم شيء، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 248 ] والمعنى: تعلم ما أخفيه من سري وغيبي، ولا أعلم ما تخفيه أنت ولم تطلعنا عليه، فلما كان سر عيسى يخفيه في نفسه، جعل أيضا سر الله مما يخفيه الله في نفسه ليزدوج الكلام ويحسن النظم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: النفس في اللغة تقع عبارة عن حقيقة الشيء، فمعنى تعلم ما في نفسي أي: تعلم ما أضمره ولا أعلم ما في نفسك أي: لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه.

                                                                                                                                                                                                                                      والتأويل: إنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، يدل على هذا قوله: إنك أنت علام الغيوب .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر ما قال لقومه فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به فسر ذلك فقال: أن اعبدوا الله ربي وربكم أي: أمرتهم بعبادتك لأنك ربي وربهم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم كنت أشهد على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم، فلما توفيتني يعني: وفاة الرفع إلى السماء من قوله: إني متوفيك ورافعك إلي ، كنت أنت الرقيب عليهم الحفيظ عليهم تحفظ أعمالهم، وأنت على كل شيء شهيد قال ابن عباس: شهدت مقالتي فيهم وبعد ما رفعتني إليك شهدت ما يقولون بعدي.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية: قال الحسن وأبو العالية إن تعذبهم: فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإسلام فأنت في ذلك قاهر غالب عادل لا يعترض عليك معترض.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا اختيار الزجاج لأنه قال: والذي عندي: أن عيسى عليه السلام قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جميعهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل فيهم، وإن تغفر لهم لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في هذا اليوم، ولأنه يوم الجزاء، وما تقدم في الدنيا الصدق إنما يتبين نفعه في هذا اليوم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: هذا تصديق لعيسى فيما قال، وذلك أنه كان صادقا في الدنيا، ولم يقل للنصارى: اتخذوني إلها فنفعه صدقه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 249 ] ومن قرأ هذا يوم بالرفع فعلى الابتداء والخبر، جعل اليوم خبر المبتدإ الذي هو هذا، والمعنى: قال الله: هذا اليوم يوم منفعة الصادقين.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ - بالنصب - فعلى الظرف على تقدير قال الله هذا يعني: ما تقدم ذكره في يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي: قال الله هذا في يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: رضي الله عنهم أي: بطاعتهم، ورضوا عنه: بثوابه ذلك الفوز العظيم قال الحسن: فازوا بالجنة ونجوا من النار.

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل: ثم عظم نفسه عما قالت النصارى من أن معه إلها فقال: لله ملك السماوات والأرض قال الحسن: يريد خزائن السماوات وهي المطر وخزائن الأرض وهي النبات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وما فيهن وهو على كل شيء قدير إشارة إلى أن الآمال يجب أن تتعلق بالله تعالى لعظيم ملكه وسعة قدرته.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية