ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين قال اهبطوا [ ص: 352 ] بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
قوله: ولقد مكناكم في الأرض قال ملكناكم في الأرض، يريد ما بين ابن عباس: مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام، ومعنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة والخطاب لقريش، وكان الله تعالى قد فضلهم على العرب، وكانوا يتجرون فيما بين مكة والشام واليمن آمنين، ويكسبون الأموال، وهو قوله: وجعلنا لكم فيها معايش وهي جمع المعيش والمعيشة وهي ما يعاش به من المكاسب والتجارات، وقوله: قليلا ما تشكرون قال يريد أنكم غير شاكرين لأنعمي ولا طائعين. ابن عباس:
ولقد خلقناكم يعني: آدم، وإنما قال بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، وفي خلقه خلق من يخرج من صلبه، ثم صورناكم يعني ذريته في ظهر آدم، كما روي: "إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره في صورة الذر" .
ويجوز أن يكون المراد بقوله: ثم صورناكم آدم، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: ثم صورناكم تصوير ذريته في الأرحام، لقوله: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم لأن هذا كان قبل تصوير ذرية آدم في الأرحام.
قوله عز وجل: قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك معنى هذا السؤال: التوبيخ لإبليس لعنه الله وإظهار [ ص: 353 ] عناده للأمر، ولا في قوله: ألا تسجد: قال هي صلة، والمعنى: ما منعك أن تسجد، ونحو هذا قال الفراء: الكسائي، والزجاج.
وقوله: قال أنا خير منه معناه: منعني من السجود له فضلي عليه، وأني خير منه، إذ كنت ناريا وكان طينيا، وهو قوله: خلقتني من نار وخلقته من طين قال "كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس، وإنما كفر إبليس; لأنه قاس في مخالفة النص، وإنما يذم من القياس ما خالف النص" . ابن عباس:
[ ص: 354 ] قوله تعالى: قال فاهبط منها أي: انزل من السماء فما يكون لك أن تتكبر فيها قال يريد: أن أهلها ملائكة متواضعون خاشعون. ابن عباس:
فاخرج إنك من الصاغرين الأذلاء، قال إن إبليس استكبر بإبائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك. الزجاج:
قال أنظرني أمهلني وأخرني إلى يوم يبعثون إلى يوم البعث، فأبى الله ذلك عليه، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم; لأنه بين مدة المهلة في موضع آخر، وإن لم تبين في هذه السورة، وهو قوله: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو النفخة الأولى قال فبما أغويتني قال أضللتني. ابن عباس:
وقال أي: فبما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء. ابن الأنباري:
والباء للقسم، أي: بإغوائك إياي، والمعنى: بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في، لأقعدن لهم صراطك المستقيم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، وهو دين الله الإسلام، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المأثم.
أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد العدل، أنا جدي، أنا أبو عمرو الجبري، نا علي بن سعيد بن جرير النسائي، نا [ ص: 355 ] أبو النضر، نا أبو عقيل، نا موسى بن المسيب، أخبرني عن سالم بن أبي الجعد، سبرة بن أبي فاكه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر مثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتقتل، وتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه، فجاهد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منكم ومات، كان حقا على الله أن يدخله الجنة".
قوله: ثم لآتينهم من بين أيديهم قال في رواية ابن عباس يعني: من الدنيا، ومن خلفهم من الآخرة، أتاهم من بين أيديهم، فزين لهم الدنيا ودعاهم إليها، ومن خلفهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة، ولا نار. الوالبي:
وقوله: وعن أيمانهم، قال عن الوالبي من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم: من قبل سيئاتهم. ابن عباس:
وهذا قول قال: وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم أبطئهم عنها، وعن شمائلهم: أزين لهم السيئات والمعاصي، وأدعوهم إليها وآمرهم بها، أتاك يابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. قتادة،
وقال أهل المعاني: ذكر الله تعالى هذه الجهات مبالغة في التوكيد، والمعنى: ثم لآتينهم من جميع الجهات.
وهو اختيار قال الزجاج، الحقيقة والله أعلم: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم. الزجاج:
وقوله: ولا تجد أكثرهم شاكرين قال يريد أن أكثرهم لإبليس طائعون، ولله عاصون. ابن عباس:
قوله تعالى: قال اخرج منها قال من الجنة. الكلبي:
مذءوما: الذأم: الاحتقار، يقال: ذأمت الرجل، أذأمه.
[ ص: 356 ] إذا احتقرته وذممته وعبته، قال ابن قتيبة: مذءوما: مذموما بأبلغ الذم.
مدحورا: منفيا مطرودا، والدحر: الطرد والإبعاد.
وقوله: لمن تبعك منهم أي: من ولد آدم، واللام لام القسم، على تقدير: والله لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين قال ابن عباس: لمن أطاعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين يعني المشركين والمنافقين والكافرين وقرناءهم من الشياطين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة الآية مفسرة في سورة البقرة، وقوله: فوسوس لهما الشيطان الوسوسة حديث النفس، قال الله تعالى: ونعلم ما توسوس به نفسه ، والمعنى: حدثهما الشيطان في أنفسهما ليبدي لهما: هذه لام العاقبة، وذلك أن عاقبة تلك الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، وإنما كانت الوسوسة للمعصية، لا لظهور العورة، ولكن تأدت العاقبة إلى ذلك فصار كقوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا .
وقوله: ما ووري عنهما من سوآتهما أي: ما ستر، من المواراة ومنه قوله: يواري سوءة أخيه .
قال كانا قد ألبسا ثوبا يستر العورة منهما، فلما عصيا تهافت عنهما ذلك الثوب. ابن عباس:
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين لا تموتان إلى يوم القيامة، كما لا تموت الملائكة، والتقدير: إلا أن لا تكونا، وعند البصريين: إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أي: لا تموتان فتبقيان أبدا.
وقاسمهما: قال ابن عباس، حلف لهما بالله حتى خدعهما، وإنما يخدع المؤمن بالله تعالى، قال إبليس: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وقتادة:
وكان بعض أهل العلم يقول: "إنه من خادعنا بالله خدعنا" .
وقوله: إني لكما لمن الناصحين أي: إني [ ص: 357 ] أنصح لكما من دعائكما إلى أكل هذه الشجرة.
قوله: فدلاهما بغرور التدلية: إرسال الدلو في البئر، والمعنى هاهنا: غرهما وأطمعهما، قال الأزهري: " أصله تدلية العطشان في البئر ليروى من الماء، فلا يجد الماء، فيكون مدلى بالغرور، ثم وضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا، فيقال: دلاه إذا أطمعه في غير مطمع.
قال غرهما ابن عباس: باليمن، وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف بالله كاذبا.
قوله: فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما قال الكلبي: " فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه، فاستحييا، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يقال: طفق يفعل كذا: إذا أخذ في فعله، ومعنى يخصفان: يطبقان على أبدانهما الورق، وقال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما.
وقال أقبلا، وجعلا يرقعان، ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. قتادة:
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة قال بلغني أن الله تعالى ناداهما: أفرارا مني يا عطاء: آدم؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب، ما ظننت أن أحدا يحلف باسمك كاذبا.
وقوله: وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قال بين العداوة حيث أبى السجود لآدم، وقال: ابن عباس: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم أقرا على أنفسهما بالظلم: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا الآية، وذكرنا أن هذه الكلمات التي كانت سبب قبول توبتهما، وقوله: قال اهبطوا إلى آخر الآية مفسر في سورة البقرة.
قوله تعالى: قال فيها تحيون وفيها تموتون الآية: قال في الأرض تعيشون، وفي الأرض قبوركم، ومن الأرض تخرجون من قبوركم للبعث. الكلبي:
ولما ذكر عري آدم من علينا باللباس الذي يستر بها العورة.