وقوله: ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون
ولما سكت عن موسى الغضب أي: سكن وذهبت حدته وفورته، أخذ الألواح: التي كان ألقاها، وفي نسختها وفي المكتوب فيها، وذلك المكتوب انتسخ من أصل فسمي نسخة، هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب، للذين هم لربهم يرهبون يريد الخائفين من ربه واللام في لربهم زيادة للتوكيد كقوله: ردف لكم، وقد يزاد حرف الجر توكيدا وإن كان مستغنى عنه، يقال: ألقى يده، وبيده.
وفي القرآن: ألم يعلم بأن الله يرى .
قوله تعالى: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا معناه: من قومه، فحذفت من ووصل الفعل فنصب، قال [ ص: 415 ] أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار السدي: موسى سبعين رجلا ليعتذروا، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا الله جهرة ف أخذتهم الرجفة وهي: الرعدة والحركة الشديدة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وتنقض ظهورهم، وخاف موسى عليهم الموت فبكى ودعا، وخاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوه بأنهم ماتوا.
قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، وإياي فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا هذا استفهام على تأويل الجحد أراد: لست تفعل ذلك، أي: لا تهلكنا بما فعل عبدة العجل.
هذا قول وقال ابن الأنباري، هذا استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا. المبرد:
وقوله: إن هي إلا فتنتك أي: تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك، أي: اختبارك وابتلاؤك أضللت بها قوما فافتتنوا، وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك، فذلك معنى قوله: تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا ناصرنا والذي يتولى أمورنا، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة قال اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة. ابن عباس:
وفي الآخرة يريد: وفي الآخرة حسنة، وهي الجنة، إنا هدنا إليك قال جميع المفسرين: تبنا ورجعنا إليك بتوبتنا، والهود: الرجوع.
قال عذابي أصيب به من أشاء قال يريد: على الذنب اليسير، ابن عباس: ورحمتي وسعت كل شيء قال الحسن، إن رحمته وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهو يوم القيامة للمتقين خاصة. وقتادة:
قال إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن، فيعيش فيها فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه. عطية العوفي:
[ ص: 416 ] .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفارسي، أنا محمد بن عبد الله بن خميرويه، أنا علي بن محمد الخزاعي، أنا أخبرني أبو اليمان، شعيب، عن أخبرني الزهري، أبو سلمة، عن قال: أبي هريرة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد تحجرت واسعا" يريد رحمة الله عز وجل.
رواه عن البخاري، وقال أبي اليمان قتادة، في قوله: وسفيان بن عيينة ورحمتي وسعت كل شيء قال: قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة إلى آخر الآية، فتمنتها اليهود والنصارى وقالت: نحن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ونؤدي الزكاة، فاختلسها الله من إبليس واليهود والنصارى فجعلها لهذه الأمة خاصة، فقال: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ، وهو نبيكم كان أميا لا يكتب، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يجدون نعته ونبوته وأمره.
[ ص: 417 ] .
أخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق، نا مأمون بن أحمد بن مأمون، نا علي بن سعيد العسكري، حدثني محمد بن الضوء، عن أبيه الصلصال بن الدلهمس، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا: إن عليل امضوا بنا لنعوده، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمنا، واتبعناه فاجتاز في طريقه برجل من اليهود يمرض ابنا له فمال إليه فقال: "يا يهودي هل تجدونني عندكم مكتوبا في التوراة؟" فأومأ إليه اليهودي برأسه يعلمه أنهم لا يجدونه عندهم في التوراة مكتوبا، فقال له ابن اليهودي: والله يا رسول الله إنهم يجدونك عندهم في التوراة مكتوبا ولقد طلعت، وإن في يده لسفرا من التوراة يقرأ فيه صفتك، وصفة أصحابك، وذكرك، عبادة بن الصامت محمدا عبده ورسوله، فكانت آخر ما تكلم به الغلام حتى قضى نحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقيموا على أخيكم حتى تقضوا حقه، قال: فحلنا بين اليهودي وبينه وتولينا أمره، حتى واريناه وانصرفنا فلما رآك ستره عنك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
وقوله: يأمرهم بالمعروف قال يريد: مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، ابن عباس: وينهاهم عن المنكر عبادة الأوثان وقطع الأرحام، ويحل لهم الطيبات يعني: ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها، ويحرم عليهم الخبائث الميتة والدم وما ذكر معهما، ويضع عنهم إصرهم قال الإصر: ما عقدته من عقد ثقيل. الزجاج:
قال سعيد بن جبير: هو شدة العبادة.
والأغلال التي كانت عليهم قال المفسرون: هي الشدائد التي كانت عليهم كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، ووجوب القصاص دون الدية، وترك العمل بتة في السبت، فشبهت هذه الشدائد بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق تمثيلا، فالذين آمنوا به بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود، وعزروه ووقروه، [ ص: 418 ] ونصروه على عدوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه يعني القرآن، أولئك هم المفلحون وما يليها ظاهر التفسير.