الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإنا إن شاء الله لمهتدون قال ابن عباس : إلى القاتل. قال: ولولا أنهم استثنوا ما اطلعوا على القاتل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال لهم موسى ، "إنه" إن ربكم، يقول إنها بقرة لا ذلول لم يذللها العمل، تثير الأرض يعني: لا يزرع عليها، ليست من العوامل، ومعنى الإثارة هاهنا: قلب الأرض للزراعة، يقال: أثرت الشيء واستثرته، إذا هيجته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تسقي الحرث أي: ليست بسانية، والحرث: الأرض المهيأة للزرع، (مسلمة) قال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع : أي: من العيوب. وقال الحسن : من أثر العمل.

                                                                                                                                                                                                                                      (لا شية فيها) الوشي، والشية: خلط لون بلون، يقال: وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، وأصل الدرء: الدفع، وادارأتم أصله: تدارأتم، ثم أدغم التاء في الدال، وأدخلت الألف ليسلم سكون [ ص: 157 ] الحرف الأول، ومثله: اثاقلتم، واطيرنا، قوله: والله مخرج مظهر، ما كنتم تكتمون أي: تخفون وتسترون من أمر القتيل.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال ابن عباس : لا بياض فيها، صفراء كلها. وقال الزجاج : ليس فيها لون يفارق سائر لونها. قالوا الآن وهو الوقت الذي أنت فيه، جئت بالحق بالوصف البين التام الذي دل على التمييز من أجناسها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (فذبحوها) في الآية إضمار ما أراد: فطلبوها فوجدوها فذبحوها، وما كادوا يفعلون قال ابن عباس ، والقرطبي : لغلاء ثمنها. وقال السدي : من تشديدهم على أنفسهم، وتعنتهم موسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذ قتلتم نفسا هذا عطف على قوله: وإذ فرقنا بكم البحر ، وإذ قلتم يا موسى ، والذكر مضمر هاهنا، كأنه قال: واذكروا إذ قتلتم نفسا، وأضاف القتل إليهم وإن كان القاتل واحدا على ما ذكرنا من عادة العرب أنهم يضيفون فعل البعض إلى جماعة القبيلة، يقولون: فعلتم كذا، وإن كان بعضهم فعل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية هي أول القصة، ولكنها مؤخرة في الكلام، ومعناه التقديم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (فادارأتم فيها) قال ابن عباس : اختلفتم. وقال الربيع : تدافعتم يعني: ألقى هذا على ذلك، وذلك على هذا، فدافع كل واحد عن نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فقلنا اضربوه ببعضها قال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف. وقال الضحاك : بلسانها وقال سعيد بن جبير : بعجب ذنبها. وقال مجاهد : ضرب بفخذ البقرة فقام حيا وقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته، فذلك قوله تعالى: كذلك يحي الله الموتى أي: كما أحيا هذا القتيل، وفي الآية اختصار؛ لأن التقدير: اضربوه ببعضها فيحيا، فضرب فحيي، كذلك يحي الله الموتى .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: ما معنى ضرب القتيل ببعض البقرة، والله قادر على إحيائه بغير ذلك؟ فالجواب: إن في ذلك تأكيدا لقدرة الله على إحياء الميت؛ إذ جعل الأمر في إحيائه إليهم، وجعل ذلك عند الضرب بموات لا [ ص: 158 ] إشكال في أنه علامة لهم، وآية للوقت الذي يحيا فيه عندما يكون منهم، فبان أنه من فعل الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ويريكم آياته) أي: علامات قدرته في خلق الحياة في الأموات، لعلكم تعقلون: لكي تعرفوا قدرة الله عز وجل على إحياء الميت.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه القصة في القرآن من أدل الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث خبرهم بما صدقه في ذلك أهل الكتاب، وهو رجل عربي أمي، لم يقرأ كتابا، ولم يتعلم من أحد، ولم يكن هذا من علم العرب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم) يقال: "قسا قلبه يقسو قسوة وقساوة وقسوا" وهي الشدة والصلابة واليبس، يقال: حجر قاس، أي: صلب، وأرض قاسية: لا تنبت شيئا. قال الزجاج : تأويل القسوة: ذهاب اللين والرحمة والخشوع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (من بعد ذلك) أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهدها أن يلين قلبه ويخضع، فهي كالحجارة قال المفسرون: إنما شبه قلوبهم بالحجارة في الغلظة والشدة، ولم يقل: كالحديد، وإن كان الحديد أصلب من الحجارة؛ لأن الحديد يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام بإذن الله حتى صار كالعجين، ولا تلين الحجارة بمعالجة أبدا، ولأن في الحديد منافع، تلك المنافع لا توجد في الحجارة، فشبه الله قلوبهم بالحجارة لقسوتها، ولعدم المنفعة فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أو أشد قسوة معناه: بل أشد قسوة، وارتفع أشد بإضمار هي، كأنه قال: أو هي أشد.

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أبو إبراهيم بن أبي القاسم الواعظ ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن حمشاذ ، أخبرني أبو عبد [ ص: 159 ] الله محمد بن حفص الجويني ، حدثنا ابن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص المدائني ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله  ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار الكناية في "منه" عائدة على "ما"، كأنه قيل: وإن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار، يعني: من الحجارة ما يسيل منه أنهار من ماء، وإن منها لما يشقق أي: يتشقق، فأدغمت التاء في الشين، فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط أي: ينزل ويسقط من رأس الجبل إلى أسفله، من خشية الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : كل حجر تفجر منه الماء، أو تشقق عن الماء، أو تردى من رأس جبل، فهو من خشية الله نزل في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية: إن الحجارة قد تصير إلى هذه الأحوال التي ذكرها من خشية الله وقلوب اليهود لا تخشع ولا [ ص: 160 ] تخشى الله ولا تلين، لأنهم عارفون بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن من كذبهم كانت النار عاقبته، ثم لا يؤمنون به، فقلوبهم أقسى من الحجارة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أوعدهم على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: وما الله بغافل عما تعملون أي: أن يجازيكم على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية