الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقال: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون  وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون  أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون  ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون  وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون  بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون  والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون  

                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون وهذا استفهام معناه الإنكار والنهي، أن يؤمنوا لكم أي: يصدقكم اليهود، وقد كان فريق منهم أي: طائفة وجماعة، يسمعون كلام الله يعني التوراة، ثم يحرفونه أي: يغيرونه، من بعد ما عقلوه علموه وفهموه، يعني: الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد عليه السلام، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس ، ومقاتل : هم الذين انطلقوا مع موسى إلى الجبل فسمعوا كلام الله ثم حرفوه، وزادوا فيه، وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم سألهم الذين لم يذهبوا معهم، فقالت طائفة منهم لم يرد الله أن يطهر قلوبهم : سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم، فلا تفعلوا ولا بأس فغيروا ما سمعوا، ولم يؤدوه على الوجه الذي سمعوه، فقيل في هؤلاء الذين شاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم إن كفروا [ ص: 161 ] وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم، وهذا مما يقطع الطمع في إيمانهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (وهم يعلمون) أي: لم يفعلوا ذلك عن خطأ ونسيان، بل فعلوه عن قصد وتعمد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : يعني منافقي اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين قالوا: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا خلا بعضهم إلى بعض إذا رجعوا إلى رؤسائهم لاموهم على ذلك، وقالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم قال الكلبي : قال: بما قص الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق. وقال الكسائي : بما بينه الله لكم من العلم بصفة محمد النبي المبشر به ونعته.

                                                                                                                                                                                                                                      ليحاجوكم به ليجادلوكم ويخاصموكم، يعني أصحاب محمد عليه السلام، ويقولون لليهود: قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (عند ربكم) قال ابن الأنباري : معناه: في حكم ربكم، كما تقول: هذا حلال عند الشافعي . أي: في حكمه. وهذا يحل عند الله. أي: في حكمه، والمعنى: لتكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة، أفلا تعقلون أفليس لكم ذهن الإنسانية، وهذا من كلام رؤسائهم لهم في لومهم إياهم، فقال الله تعالى: (أولا يعلمون) يعني: اليهود، أن الله يعلم ما يسرون من التكذيب، وما يعلنون من التصديق.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ومنهم) عبد الله : من اليهود، أميون قال الحجاج : معنى الأمي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمة. أي: لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 162 ] وقال غيره: قيل للذي لا يكتب: أمي؛ لأن الكتابة مكتسبة، أي: هو على ما ولدته أمه، لم يتعلم الكتابة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (لا يعلمون الكتاب) قال الكلبي : لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته. إلا أماني قال ابن عباس : إلا أحاديث، لا يعلمون إلا ما حدثوا به. وقال الفراء : الأماني: الأحاديث المفتعلة، يقول الله تعالى: (لا يعلمون الكتاب) ، ولكن أحاديث مفتعلة ليست كتاب الله، يسمعونها من كبرائهم، وهي كلها أكاذيب.

                                                                                                                                                                                                                                      والعرب تقول: أنت إنما تمتني هذا القول. أي: تختلقه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أحمد بن يحيى : التمني: الكذب، يقول الرجل: والله ما تمنيت هذا الكلام ولا اختلقته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن ، وأبو العالية ، وقتادة في قوله تعالى: (إلا أماني) : أي: إلا أن يتمنوا على الله الباطل والكذب مثل قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : والاستثناء على هذا التأويل منقطع عن الأول، يريد: لا يعلمون الكتاب البتة، لكنهم يتمنون على الله ما لا ينالون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وإن هم إلا يظنون قال ابن عباس : لا يعلمون ولا يدرون ما هم فيه وهم يجحدون نبوتك بالظن، وقال أصحاب المعاني: ذم الله بهذه الآية قوما من اليهود لا يحسنون شيئا، وليسوا على البصيرة إلا ما [ ص: 163 ] يحدثون به، وإلا ما يقرؤونه من غير علم به، ففيه حث على تعلم العلم، حتى لا يحتاج الإنسان إلى تقليد غيره وأن يقرأ شيئا لا يكون له به معرفة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم روى أبو سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ويل: واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره" .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عطاء بن يسار : الويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لانماعت من حره. وقال الزجاج : الويل: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي ، عن ابن عباس في قوله: فويل، قال: الشدة من العذاب. للذين يكتبون الكتاب بأيديهم يعني: يغيرون صفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان ربعة أسمر، وكتبوا صفته على غير ما كانت في التوراة، وذلك لما كانوا يأخذونه من المآكل من سائر اليهود، فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن هم بينوا الصفة، فذلك قوله: وويل لهم مما يكسبون .

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الأصبهاني ، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي، حدثنا شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: [ ص: 164 ] أحبار اليهود وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة: أكحل، أعين ربعة، حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا، فأتاهم نفر من قريش، فقالوا: أتجدون في التوراة نبيا منا؟ قالوا: نعم، نجده طويلا أزرق سبط الشعر".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال ابن عباس : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ويهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع عنا العذاب. فأنزل الله في ذلك: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة أي: قليلة.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعدودة إذا أطلقت كان معناها: القليلة، كقوله: دراهم معدودة فقال الله عز وجل: قل لهم يا محمد ، أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أي: هل أخذتم بما تقولون من الله ميثاقا؟ فالله لا ينقض ميثاقه، أم تقولون على الله الباطل جهلا منكم، والمعنى: قل لهم: على أي الحالتين أنتم على اتخاذ العهد؟ أم على القول بـ"ما لا تعلمون"؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: بلى من كسب سيئة قال الفراء : بلى يكون جوابا للكلام الذي فيه الجحد، فإذا قال الرجل: ألست تقوم؟ فتقول: "بلى". و"نعم" جواب للكلام الذي لا جحد فيه، فإذا قال الرجل: هل تقوم؟ قلت: نعم. قال الله تعالى: ألم يأتكم نذير قالوا بلى ، وقال: ألست بربكم قالوا بلى ، وقال: فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم والآية رد على اليهود في قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، فقال الله تعالى: بلى أعذب من كسب سيئة. و"السيئة": العمل القبيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وإجماع أهل التفسير أن "السيئة" هاهنا هي الشرك، وأحاطت به خطيئته أي: سدت عليه مسالك النجاة، و"الخطيئة": الذنب على عمد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 165 ] قال ابن عباس ، والضحاك ، وأبو وائل ، وأبو العالية ، والربيع ، وابن زيد : هي الشرك يموت عليه الإنسان، وقال غيرهم: هي الذنوب الكبيرة الموجبة لأهلها النار، والمؤمنون لا يدخلون في حكم هذه الآية؛ لأن الله تعالى أوعد بالخلود في النار من أحاطت به خطيئة، وتقدمت منه سيئة هي الشرك، والمؤمن، وإن عمل الكبائر، فلم يوجد منه الشرك، وقرأ أهل المدينة (خطيئاته) بالجمع، والباقون: على الواحدة؛ لأنها أضيفت إلى ضمير مفرد، فلما لم يكن الضمير جمعا لم يجمع كما جمعت في قوله تعالى: نغفر لكم خطيئاتكم ؛ لأنه مضاف إلى جماعة، وهي وإن كانت مفردة لا يمتنع وقوعها على الكثرة، كقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها والعد إنما يقع على الجموع، ومن قرأ بالجمع حمل على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة لا الواحد، والضمير المضاف إليه جمع في المعنى، بدليل قوله تعالى: فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية