وقوله تعالى: وما يعلمان من أحد اختلفوا في ، فذكر أهل التفسير وأصحاب المعاني فيه وجهين: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حرم عليهم، وطاعة الله فيما أمروا به ونهوا عنه، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلا لو سأل: ما الزنى وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر وحرام. تعليم الملكين السحر
ويؤكد هذا الوجه ما روى ، عن أبو العباس ابن الأعرابي ، أنه قال: علم بمعنى: أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك من الإعلام، كما يقال: تعلم، بمعنى: علم، لأن من تعلم شيئا فقد علمه، فيوضع التعليم موضع العلم.
قال ابن الأعرابي : ومن هذا قوله تعالى: وما يعلمان من أحد قال: معناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول: [ ص: 185 ] أخبراني عما نهى الله عنه حتى أنتهي. فيقولان: نهى الله عن الزنى فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن اللواط. ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن السحر. فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا. فيحفظه وينصرف، فيخالف فيكفر، فهذا معنى قوله: (يعلمان) أنما هو يعلمان.
ولا يكون تعليم السحر -إذا كان إعلاما- كفرا، ولا تعلمه -إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه- كفرا، كما أن من عرف الزنى لم يأثم، إنما يأثم بالعمل.
الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل تعليم السحر، فيكفر بتعلمه، ويؤمن بشرك التعلم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء، كما امتحن بنهر طالوت في قوله تعالى: إن الله مبتليكم بنهر ، يدل على صحة هذا: قوله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر أي: محنة من الله، نخبرك أن عمل السحر كفر بالله وننهاك عنه، فإن أطعتنا في ترك العمل بالسحر نجوت، وإن عصيتنا في ذلك هلكت، ومعنى "من أحد": أحدا، ومن زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، ومعنى "الفتنة": الابتلاء والامتحان، مأخوذ من قولهم: فتنت الذهب والفضة، إذا أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قوله تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون قيل في التفسير: وهم لا يبتلون في أنفسهم وأموالهم.
ولقد فتنا الذين من قبلهم أي: اختبرنا، ويقال: فتنه وأفتنه. و"الفتنة" مصدر؛ لذلك لم يثن.
[ ص: 186 ] وقوله تعالى: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وهو أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه، وما هم أي: السحرة، وقيل: الشياطين "بضارين به" أي: بالسحر، من أحد أي: أحدا "إلا بإذن الله".
قال المفسرون: الإذن هاهنا: إرادة التكوين، أي: لا يضرون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه الضرر.
وقوله تعالى: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم المعنى: أنه يضرهم في الآخرة وإن تعجلوا به في الدنيا نفعا، ولقد علموا يعني اليهود، لمن اشتراه أي: اختاره، يعني السحر، ما له في الآخرة من خلاق أي: نصيب، والخلاق: النصيب الرامز من الخير.
قال المفسرون: الخلاق من هذه الآية: النصيب من الجنة. قوله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم أي: بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله، لو كانوا يعلمون عاقبة ما يصير إليه من بخس حظه في الآخرة.
ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، واتقوا اليهود والسحر، لأثيبوا ما هو خير لهم، وهو قوله: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ، والمثوبة كالثواب، وكذلك المثوبة مثل المشورة والمشورة، ويعني بالآية أن ثواب الله لهم لو آمنوا خير من كسبهم بالكفر والسحر.