الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون  وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين  ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط  وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب  إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم  

يا أيها الذين آمنوا ، يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل، إذا لقيتم فئة ، يعني كفار مكة ببدر، فاثبتوا لهم، واذكروا الله كثيرا لعلكم ، يعني لكي تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله فيما أمركم به في أمر القتال، ولا تنازعوا ، يقول: ولا تختلفوا عند القتال، فتفشلوا ، يعني فتجبنوا، وتذهب ريحكم ، يعني الصبا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" ، واصبروا لقتال عدوكم، إن الله مع الصابرين ، يعني في النصر للمؤمنين على الكافرين بذنوبهم وبعملهم.

ثم وعظ المؤمنين، فقال: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ، ليذكروا بمسيرهم، يعني ابن أمية ، وابن المغيرة المخزومي ، وذلك أنهم كانوا رءوس المشركين في غزوهم بدر، فقال أبو جهل حين نجت العير وسارت إلى مكة، فأشاروا عليه بالرجعة، قال: لا نرجع حتى ننزل على بدر فننحر الجزر ، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، فتسمع العرب بمسيرنا، فذلك قوله: بطرا ورئاء الناس ، [ ص: 21 ] ليذكروا بمسيرهم ويصدون عن سبيل الله ، يقول: ويمنعون أهل مكة عن دين الإسلام، والله بما يعملون محيط أحاط علمه بأعمالهم.

وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ، وذلك أنه بلغهم أن العير قد نجت، فأرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن خثعم الكناني ، من بني مدلج بن الحارث، فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل، فتأمن عيركم، ويسير ضعيفكم، وإني جار لكم على بني كنانة، أنكم لا تمرون بحي منهم إلا أمدكم بالخيل والسلاح والرجال، فأطاعوه ومضوا إلى بدر لما أراد الله من هلاكهم، فلما التقوا نزلت ملائكة ببدر مددا للمؤمنين، عليهم جبريل، عليه السلام، ولما رأى إبليس ذلك، نكص على عقبيه، يقول: استأخر وراءه.

فذلك قوله: فلما تراءت الفئتان فئة المشركين، نكص على عقبيه ، يقول: استأخر وراءه، أنه لا طاقة له بالملائكة، فأخذ الحارث بن هشام بيده، فقال: يا سراقة ، على هذا الحال تخذلنا؟ وقال إبليس: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون فقال الحارث: والله ما نرى إلا خفافيش يثرب، فقال إبليس: إني أخاف الله والله شديد العقاب ، وكذب عدوا الله ما كان به الخوف، ولكن خذلهم عند الشدة، فقال الحارث لإبليس وهو في صورة سراقة: فهلا كان هذا أمس، فدفع إبليس في صدر الحارث ، فوقع الحارث ، وذهب إبليس هاربا، فلما انهزم المشركون، قالوا: انهزم بالناس سراقة ، وهو بعض الصف، فلما بلغ سراقة سار إلى مكة، فقال: بلغني أنكم تزعمون بأني انهزمت بالناس، فوالذي يحلف به ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، قالوا له: ما أتيتنا يوم كذا وكذا، فحلف بالله لهم أنه لم يفعل، فلما أسلموا علموا أنما ذلك الشيطان.

إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، يعني الكفر، نزلت في قيس بن الفاكه ، ولم يتجمع جمع قط منذ يوم كانت الهزيمة أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه، وجاء كل شيطان موكل بالدنيا، إلا شيطانا موكلا بآدمي، وكفر الجن [ ص: 22 ] كلهم، وسبعمائة من المشركين عليهم أبو جهل بن هشام ، وكان قبل ذلك في ألف رجل، فرد منهم أبي بن شريق ثلاثمائة من بني زهرة، وذلك أن أبى بن شريق خلا بأبي جهل ، فقال: يا أبا الحكم ، أكذاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله ما يكذب محمد صلى الله عليه وسلم على الناس، فكيف يكذب على الله، وكان يسمى قبل النبوة الأمين؛ لأنه لم يكذب قط.

فقال أبو جهل: ولكن إذا كانت السقاية في بني عبد مناف، والحجابة والمشورة والولاية، حتى النبوة أيضا، فلما سمع أبى بن شريق قول أبي جهل: إن محمدا لم يكذب، رد أصحابه عن قتال محمد، عليه السلام، فخنس، فسمي الأخنس بن شريق؛ لأنه خنس بثلاثمائة رجل من بني زهرة يوم بدر عن قتال محمد، عليه السلام، وبقي سبعمائة عليهم أبو جهل بن هشام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وسبعين من مؤمني الجن، وألف من الملائكة عليهم جبريل، عليه السلام، فكان جبريل على خمسمائة على ميمنة الناس، وميكائيل على خمسمائة في ميسرة الناس، ولم تقاتل الملائكة قتالا قط إلا يوم بدر، وكانوا يومئذ على صور الرجال، وعلى قوة الرجال على خيول بلق، وكان جبريل، عليه السلام، يسير أمام صف المسلمين، ويقول: أبشروا، فإن النصر لكم، وما يرى المسلمون إلا أنه رجل منهم.

إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، يعني الكفر، نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، والوليد بن عتبة بن ربيعة ، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي ، وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية ، كان هؤلاء المسلمون بــ مكة، ثم أقاموا بمكة مع المشركين، فلم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر، خرج هؤلاء النفر معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا: غر هؤلاء دينهم ، يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: ومن يتوكل على الله ، يعني المؤمنين، يعني يثق به في النصر، فإن الله عزيز ، يعني منيع في ملكه، حكيم في أمره حكم النصر.

التالي السابق


الخدمات العلمية