فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
[ ص: 310 ] فحملته أمه مريم ، عليها السلام، وهي ابنة ثلاث عشرة سنة، ومكثت مع عيسى ، عليه السلام، ثلاثا وثلاثين سنة، وعاشت بعدما رفع عيسى ست سنين، فماتت ولها اثنتان وخمسون سنة، فحملته أمه في ساعة واحدة، وصور في ساعة واحدة، وأرضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقد كانت حاضت حيضتين قبل حمله، فانتبذت به ، يعني فانفردت بعيسى صلى الله عليه وسلم، مكانا قصيا ، يعني نائيا من أهلها من وراء الجبل.
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ، يعني فألجأها، ولم يكن لها سعف، قالت مريم: يا ليتني مت قبل هذا الولد حياء من الناس، ثم قالت: وكنت نسيا منسيا ، يعني كالشيء الهالك الذي لا يذكر فينسى.
فناداها جبريل، عليه السلام، من تحتها ، يعني من أسفل منها في الأرض، وهي فوقه على رابية، وجبريل، عليه السلام، يناديها بهذا الكلام: ألا تحزني ، ذلك حين تمنت الموت، قد جعل ربك تحتك سريا ، يعني الجدول الصغير من الأنهار.
وقال جبريل، عليه السلام، لها: وهزي إليك ، يعني وحركي إليك، بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ، يعني بالجني ما ترطب به من البسر، وكانت شجرة يابسة، فاخضرت وهي تنظر، وحملت الرطب مكانها وهي تنظر، ثم نضجت وهي تنظر، ثم أجرى الله عز وجل لها نهرا من الأردن حتى جاءها، فكان بينهما وبين جبريل، عليه السلام، وهذا كلام جبريل لها، وإنما جعل الله عز وجل ذلك لتؤمن بأمر عيسى صلى الله عليه وسلم ولا تعجب منه.
[ ص: 311 ] حدثنا عبيد الله ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل ، قال: قال وأخبرت عن مقاتل: ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عكرمة ، في قوله: ابن عباس إني نذرت للرحمن صوما ، يعني صمتا.
فكلي من النخلة، واشربي من الماء العذب، وقري عينا بالولد، فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما ، يعني صمتا، فلن أكلم اليوم إنسيا في عيسى صلى الله عليه وسلم .
فأتت به قومها بالولد، تحمله إلى بني إسرائيل في حجرها ملفوفا في خرق، قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ، يقول: أتيت أمرا منكرا.
يا أخت هارون الذي هو أخو موسى . حدثنا عبيد الله ، قال: حدثني أبي، عن الهذيل ، قال: قال مقاتل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما عنوا هارون أخا موسى ؛ لأنها كانت من نسله "، ما كان أبوك عمران ، امرأ سوء ، يعني بزان، كقوله سبحانه: من أراد بأهلك سوءا ، يعني الزنا، وكقوله سبحانه: ما علمنا عليه من سوء ، وكان عمران من عظماء بني إسرائيل، وما كانت أمك جنة، بغيا بزانية، فمن أين هذا الولد ؟ فأشارت إليه ، يعني إلى ابنها عيسى صلى الله عليه وسلم أن كلموه، قالوا ، قال قومها: كيف نكلم من كان ، يعني من هو، في المهد ، يعني في حجر أمه ملفوفا في خرق، صبيا ، فدنا زكريا من الصبي، فقال: تكلم يا صبي بعذرك إن كان لك عذر.
فـ قال الصبي، وهو يومئذ ولد، إني عبد الله ، وكذبت النصارى فيما يقولون، فأول ما تكلم به الصبي أنه أقر لله بالعبودية، آتاني الكتاب ، يعني أعطاني الإنجيل فعلمنيه، وجعلني نبيا . وجعلني مباركا ، يعني معلما مؤدبا في الخير، أين ما كنت من الأرض، وأوصاني بإقامة بالصلاة وإيتاء والزكاة ما دمت حيا . وبرا بوالدتي ، يقول: وأوصاني أن أكون برا بوالدتي، يعني مطيعا لأمي مريم ، [ ص: 312 ] ولم يجعلني جبارا ، يعني متكبرا عن عبادة الله، شقيا ، يعني عاصيا لله عز وجل.
والسلام علي يوم ولدت ، فلما ذكر الوالدة، ولم يذكر الوالد، ضمه زكريا إلى صدره، وقال: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والسلام علي يوم ولدت ، يعني حين ولدت، ويوم أموت ، يعني وحين أموت، ويوم أبعث حيا ، يعني وحين أبعث حيا بعد الموت في الآخرة، ثم لم يتكلم بعد ذلك حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، فلما قال: وبرا بوالدتي ، ضمه زكريا.