الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم  وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم  

سيقول السفهاء من الناس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، فلما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلا، أمر بالصلوات الخمس، فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع ركعات، فلما هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأول، أمر أن يصلي نحو بيت المقدس ; لئلا يكذب به أهل الكتاب إذا صلى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل بيت المقدس من أول مقدمه المدينة سبعة عشر شهرا، وصلت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم  ، فقال [ ص: 83 ] لجبريل، عليه السلام: " وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها   "، فقال جبريل، عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا، فاسأل ربك ذلك، وصعد جبريل إلى السماء، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل، عليه السلام، بما سأل.

فأنزل الله عز وجل في رجب عند صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة، قال مشركو مكة: قد تردد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم، فكان قولهم هذا سفها منهم، فأنزل الله عز وجل: سيقول السفهاء من الناس ، يعني مشركي مكة، ما ولاهم ، يقول: ما صرفهم عن قبلتهم الأولى التي كانوا عليها قل يا محمد لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، يعني دين الإسلام، يهدي الله نبيه والمؤمنين لدينه.

وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وذلك أن اليهود منهم مرحب ، ورافع ، وربيعة قالوا لمعاذ: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل، فأنزل الله عز وجل في قول معاذ: وكذلك ، يعني وهكذا، جعلناكم أمة وسطا ، يعني عدلا، نظيرها في ن والقلم، قوله سبحانه: قال أوسطهم ، يعني أعدلهم، وقوله سبحانه: من أوسط ما تطعمون أهليكم ، يعني أعدل، فقول الله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، يعني أمة محمد تشهد بالعدل في الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم، لتكونوا شهداء على الناس ، يعني على الرسل هل بلغت الرسالة عن ربها إلى أممهم، ويكون الرسول ، يعني محمد صلى الله عليه وسلم عليكم شهيدا ، يعني على أمته أنه بلغهم الرسالة.

وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ، يعني بيت المقدس، إلا لنعلم ، إلا لنرى من يتبع الرسول ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه في القبلة ومن يخالفه من اليهود، ممن ينقلب على عقبيه ، يقول: ومن يرجع إلى دينه الأول، وإن كانت لكبيرة ، يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة، فعظمت على اليهود، ثم استثنى [ ص: 84 ] فقال: إلا على الذين هدى الله فإنه لا يكبر عليهم ذلك، وما كان الله ليضيع إيمانكم ، وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدى أم ضلالة، فوالله لئن كانت هدى لقد تحولتم عنه، ولئن كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها، وإن من مات منكم عليها مات على الضلالة.

فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله عز وجل به، والضلالة ما نهى الله عنه، قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة: أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بن مالك ابن الخزرج ، من بني النجار، ومات البراء بن معرور بن صخر بن سنان بن عبيد بن عدي بن سلمة بن سعد بن علي بن شاردة بن زيد بن جشم بن الخزرج ، من بني سلمة، وكانا من النقباء، ومات رجال، فانطلقت عشائرهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله عز وجل إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، فكيف بإخواننا، فأنزل الله عز وجل: وما كان الله ليضيع إيمانكم ، يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس، يقول: لقد تقبلت منهم، إن الله بالناس لرءوف ، يعني يرق لهم، رحيم حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية