يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا
[ ص: 37 ] يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم في الدفع عنكم وذلك أن ، ومن معه من المشركين يوم أبا سفيان بن حرب الخندق تحزبوا في ثلاثة أمكنة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يقاتلونهم من كل وجه فبعث الله عز وجل عليهم بالليل ريحا باردة ، وبعث الله الملائكة ، فقطعت الريح الأوتاد ، وأطفأت النيران ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكبرت الملائكة في ناحية عسكرهم ، فانهزم المشركون من غير قتال ، فأنزل الله عز وجل يذكرهم ، فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم في الدفع عنكم إذ جاءتكم جنود من المشركين يعني ومن اتبعه أبا سفيان بن حرب فأرسلنا عليهم ريحا شديدة وجنودا لم تروها من الملائكة ألف ملك فيهم جبريل عليه السلام وكان الله بما تعملون بصيرا . ثم أخبر عن حالهم ، فقال سبحانه : إذ جاءوكم من فوقكم من فوق الوادي من قبل المشرق عليهم مالك بن عوف البصري ، وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان معهم ، طليحة بن خويلد الأسدي وحيى بن أخطب اليهودي في اليهود يهود قريظة ، وعامر بن الطفيل في هوازن ، ثم قال جل ثناؤه : ومن أسفل منكم يعني من بطن الوادي من قبل المغرب ، وهو على أهل أبو سفيان بن حرب مكة معه يزيد بن حليس على قريش والأعور السلمي من قبل الخندق ، فذلك قوله عز وجل : وإذ زاغت الأبصار يعني شخصت الأبصار فرقا وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا يعني الإياس من النصر ، وإخلاف الأمر.
يقول جل ثناؤه : هنالك يعني عند ذلك ابتلي المؤمنون بالقتال والحصر وزلزلوا زلزالا شديدا لما رأى الله عز وجل ما فيه المؤمنون من الجهد والضعف بعث لهم ريحا وجنودا من الملائكة ، فأطفأت الريح نيرانهم ، وألقت أبنيتهم ، [ ص: 38 ] وأكفأت قدورهم ونزعت أوتادهم ، ونسفت التراب في وجوههم ، وجالت الدواب بعضها في بعض ، وسمعوا تكبير الملائكة في نواحي عسكرهم فرعبوا ، فقال إن طليحة بن خويلد الأسدي : محمدا قد بدأكم بالشر ، فالنجاة النجاة ، فنادى رئيس كل قوم بالرحيل ، فانهزموا ليلا بما استخفوا من أمتعتهم ، ورفضوا بعضها لا يبصرون شيئا من شدة الريح والظلمة ، فانهزموا فذلك قوله عز وجل : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والملائكة وكان الله قويا عزيزا يعني منيعا في ملكه حين هزمهم.
وإذ يقول المنافقون منهم أوس بن قيظي ، ومعتب بن قشير الأنصاري والذين في قلوبهم مرض يعني الشك ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه إقبال المشركين من مكة أمر فحفر كل بني أب على حدة ، وصار في سلمان الفارسي بني هاشم ، فأتى على صخرة ، فلم يستطع قلعها ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان ، فضرب به ثلاث ضربات ، فانصدع الحجر ، وسطع نور من الحجر كأنه البرق ، فقال سلمان يا رسول الله ، لقد رأيت من الحجر أمرا عجيبا وأنت تضربه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وهل رأيت" ؟ قال : نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رأيت الضربة الأولى قوى سلمان : اليمن ، وفي الضربة الثانية أبيض المدائن ، وفي الضربة الثالثة مدائن الروم ، ولقد أوحى الله عز وجل إلي بأنه يفتحهن على أمتي" ، فاستبشر المؤمنون ، وفشا ذلك في المسلمين ، فلما رأوا شدة القتال ، والحصر ارتاب المنافقون ، فأساءوا القول.
قال معتب بن قشير بن عدي الأنصاري من الأوس من بني عمرو بن عوف : يعدنا محمد فتح قصور اليمن ، وفارس ، والروم ، ولا يستطيع أحدنا أن يبرز إلى الخلاء حتى يوضع فيه سهم ، هذا والله الغرور من قول ابن عبد المطلب ، وتابعه على ذلك نفر ، فأنزل الله تعالى وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض يعني كفرا ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
قال معتب بن قشير : إن الذي يقول لهو الغرور ، ولم يقل إن الذي وعدنا الله ورسوله غرور ، لأنه لا يصدق بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول ، فيصدقه ، فقال الله تعالى عن الذي قال محمد هو ما وعد الله ، وهو قول الله عز وجل ، فأكذب الله معتبا .
وإذ قالت طائفة منهم من المنافقين من بني سالم يا أهل يثرب لا مقام لكم [ ص: 39 ] لا مساكن لكم فارجعوا إلى المدينة خوفا ورعبا من الجهد والقتال في الخندق ، يقول ذلك المنافقون بعضهم لبعض ، ثم قال : ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة يعني خالية طائعة ، هذا قول بني حارثة بن الحارث ، وبني سلمة بن جشم ، وهما من الأنصار وذلك أن بيوتهم كانت في ناحية من المدينة ، فقالوا : بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق ، يقول الله تعالى : وما هي بعورة يعني بضائعة إن يعني ما يريدون إلا فرارا من القتل نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني سلمة بن جشم ، وهموا أن يتركوا أماكنهم في الخندق ففيهم يقول الله تعالى : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، قالوا : بعدما نزلت هذه الآية : ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا إذ كان الله ولينا.
قوله تعالى : ولو دخلت عليهم من أقطارها يقول : ولو دخلت عليهم المدينة من نواحيها يعني نواحي المدينة ثم سئلوا الفتنة يعني الشرك لآتوها يعني لأعطوها عفوا يقول : لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ، ثم أمروهم بالشرك لأشركوا وما تلبثوا بها إلا يسيرا يقول : ما تحسبوا بالشرك إلا قليلا حتى يعطوا طائعين فيكفوا.
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل قتال الخندق وهم سبعون رجلا ليلة العقبة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أشترط لربي أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم" ، قالوا : فما لنا إذا فعلنا يا نبي الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، فقالوا : قد فعلنا ذلك ، فذلك قوله : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ، يعني ليلة العقبة حين شرطوا للنبي صلى الله عليه وسلم المنعة لا يولون الأدبار منهزمين ، وذلك أنهم بايعوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمنعونه مما يمنعون أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، يقول الله عز وجل : وكان عهد الله مسئولا يقول : إن الله يسأل يوم القيامة عن نقض العهد ، فإن عدو الله إبليس سمع شرط الأنصار تلك الليلة ، فصاح صيحة أيقظت الناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لإبليس : "اخسأ عدو الله".