الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور  فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل  ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور  وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين  فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور  ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين  وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ  

لقد كان لسبإ وهو زجل بن يشخب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم آية ثم قال جنتان إحداهما عن يمين الوادي "و" الأخرى عن وشمال الوادي ، واسم الوادي العرم ، يقول الله عز وجل لأهل تلك الجنتين : كلوا من رزق ربكم الذي في الجنتين واشكروا له لله فيما رزقكم ، ثم قال : أرض سبأ بلدة طيبة بأنها خرجت ثمارها "و" ربكم إن شكرتم فيما رزقكم ورب غفور للذنوب كانت المرأة تحمل مكتلا على رأسها ، فتدخل البستان فيمتلئ مكتلها من ألوان الفاكهة والثمار من غير أن تمس شيئا بيدها ، وكان أهل سبأ إذا أمطروا يأتيهم السيل من مسيرة أيام كثيرة إلى العرم ، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فاستد زمانا ، وارتفع الماء على حافتي الوادي ، فصار فيهما ألوان الفاكهة والأعناب فعصوا ربهم ، فلم يشكروه ، فذلك قوله عز وجل : فأعرضوا عن الحق فأرسلنا عليهم سيل العرم والسيل هو الماء ، والعرم اسم الوادي سلط الله عز وجل الفارة على البناء الذي بنوا ، وتسمى الخلد ، فنقبت الردم ما بين الجبلين ، فخرج الماء ويبست جناتهم ، وأبدلهم الله عز وجل مكان الفاكهة والأعناب وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وهو الأراك وأثل يعني شجرة تسمى الطرفاء يتخذون منها [ ص: 63 ] الأقداح النضار وشيء من سدر قليل وثمرة السدر النبق.

ذلك الهلاك جزيناهم بما كفروا كافأناهم بكفرهم وهل نجازي إلا الكفور وهل يكافأ بعمله السيئ إلا الكفور لله عز وجل في نعمه.

ثم : وجعلنا بينهم بين أهل سبأ وبين القرى قرى الأرض المقدسة الأردن وفلسطين التي باركنا فيها بالشجر والماء قرى ظاهرة متواصلة ، وكان متجرهم من أرض اليمن إلى أرض الشام على كل ميل قرية وسوق ، لا يحلون عنده حتى يرجعوا إلى اليمن من الشام ، فذلك قوله عز وجل : وقدرنا فيها السير للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية سيروا فيها ليالي وأياما آمنين من الجوع والعطش والسباع ، فلم يشكروا ربهم وسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض.

فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث للناس ومزقناهم كل ممزق يقول الله عز وجل وفرقناهم في كل وجه ، فلما خرجوا من أرض سبأ ، ساروا ، فأما الأزد فنزلوا البحرين وعمان ، وأما خزاعة فنزلوا مكة ، وأما الأنصار وهم الأوس والخزرج ، فنزلوا المدينة ، وأما غسان فنزلوا بالشام ، فهذا تمزقهم ، فذلك قوله عز وجل : كل ممزق "و" جعلناهم أحاديث إن في ذلك لآيات يعني في هلاك جنتيهم وتفريقهم عبرة لكل صبار شكور يعني المؤمن من هذه الأمة : صبور على البلاء إذا ابتلى أهل سبأ ، ثم قال : شكور لله عز وجل في نعمه.

ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وذلك أن إبليس خلق من نار السموم ، وخلق آدم من طين ، ثم قال إبليس : إن النار ستغلب الطين ، فقال : قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك الآية ، فمن ثم صدق بقول الله عز وجل : فاتبعوه ثم استثنى عباده المخلصين ، فقال جل وعز : إلا فريقا طائفة من المؤمنين لم يتبعوه في الشرك ، وهم الذين قال الله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان .

ثم قال : وما كان له لإبليس عليهم من سلطان من ملك أن يضلهم عن الهدى إلا لنعلم لنرى من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ليبين المؤمن من الكافر وربك على كل شيء من الإيمان والشك حفيظ رقيب.

[ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية