الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              وعلة قائلي هذه المقالة ظاهر خبر ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء"

              والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: خبر ابن عباس الذي ذكرناه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء"  ، خبر مجمل فسره وبين معناه خبر ابن عمر الذي رويناه قبل عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا" ، وإنما قلنا ذلك كذلك، لأن كلا الخبرين عندنا صحيح، وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد إبطال أحدهما والقضاء عليه بالفساد، مع وجود السبيل إلى تصحيحهما، إذ كان من أعظم الخطأ أن يظن ظان برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول في وقت واحد: الماء لا ينجسه شيء، بل تنجسه النجاسات، أو يقول: الماء لا ينجسه شيء في وقت، فينفذ العمل بذلك من قوله في أمته حينا، ثم يقول بعد حين: الماء ينجسه كل ما وقع فيه من النجاسة، إلا أن يكون قدر قلتين فصاعدا، فإنه إذا كان قدر ذلك لم ينجسه شيء إلا أن تغير النجاسة لونه [ ص: 737 ] أو طعمه، أو ريحه، ثم لا ينقل الذين شاهدوا قوليه أي قوليه كان أولا، وأيهما كان آخرا إلى من بعدهم، أو لا يبين هو لأمته صلى الله عليه وسلم أن حكم قوله الثاني قد نسخ حكم قول الأول في ذلك، لأن في ترك تبيين ذلك، لو كان الأمر في هذين الخبرين على ما ظنه بعض الأغبياء، تلبيسا على الأمة أمر دينهم في ذلك، واللازم لهم العمل به فيه، ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما يتوهمه كثير من الجهلة من أن أحد هذين الخبرين ناسخ الآخر، أو أن أحدهما معارض الآخر ودافع معناه، أو أن أحدهما صحيح والآخر سقيم، بل هما عندنا صحيحان، لعدالة رواتهما، ومخرجهما كان إن شاء الله من نبي الله صلى الله عليه وسلم، والقول بهما منه في وقتين، أحدهما بعد الآخر بغير فصل له بأوقات

              وقد بينا في غير موضع من كتبنا فساد قول من قال بإجازة حكمين من النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما: ناسخ الآخر بغير بيان للأمة الناسخ منهما من المنسوخ،  وخطأ قول الزاعمين بإجازة ورود أخبار تصح مخارجها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معارضا بعضها بعضا.

              وإذ كان ذلك فاسدا بالأدلة التي استشهدنا بها على فسادها في أماكنها، فلم يبق قول يصح في هذين الخبرين، إذ كانا صحيحي المخرج، إلا القول الذي قلناه، وهو أن يقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء إذا كان قلتين" ، أو أن يقال قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، فيزول عنه معنى الماء" ، فروى عنه بعض من سمعه يقول ذلك لبعض سائليه الذين قد عرفوا أن قليل الماء الذي هو أقل من قلتين يتنجس بما يحل فيه من النجاسة عما حلت فيه النجاسة مما هو أكثر من قلتين أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء" ، وهو يعني غير الماء الذي قد عرفه السائل والمسئول: أنه ينجس بما حل فيه من النجاسة، وروى عنه بعض سائليه الذين جهلوا حكم قليل ما حلت فيه النجاسة من الماء وكثيره، على حسب ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك من قوله: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء"

              [ ص: 738 ] فإن قال لنا قائل: قد فهمنا وجه تصحيحك الخبرين الواردين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين أحدهما عن ابن عباس عنه أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء" والآخر منهما عن ابن عمر أنه قال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" ، ووقفنا على ما وصفت من معنييهما، وأن أحدهما مبين معنى الآخر، فما قدر القلتين الذي إذا كان به الماء لم يحتمل نجسا إلا باستحالته عن معنى الماء؟ قيل له: قدر ذلك قدر خمس قرب فيما قيل بالقرب العظام، فإن قال: وما الدلالة أن ذلك قدره، دون أن يكون قدر قربه، أو بعض قربه، إذ كانت القربة الواحدة معروفا لها أنه قد يكون فيها من الماء قدر قلال كثيرة من قلال العراق؟

              قيل: الدلالة على صحة ما قلنا من ذلك، دون ما خالفه، نقل الحجة وراثة عن نبيها صلى الله عليه وسلم أن قدر القلتين من قلال العراق من الماء، لو حلت فيه نجاسة لم تغير له طعما، ولا لونا، ولا ريحا، أنه نجس غير جائز التطهر به.

              فإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أن القلال التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد قدر الماء الذي لا يحتمل النجاسة بقلتين منها، غير قلال العراق، وما أشبهها من قلال سائر البلاد، ولكنها القلال التي وصفت صفتها، إذ كان الماء إذا كان بقدر ذلك، وهو قدر قلتين من قلال هجر، فهو المختلف في جواز التطهر به، وما دون ذلك، فمحكوم له بالنجاسة بقليل ما يحل فيه من النجاسة وكثيره، بنقل الحجة التي يقطع مجيئها العذر وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

              فإن قال: وكيف تدعي على الحجة نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرت، ومن رويت لنا عنه من السلف أنه قال: "الماء لا ينجسه شيء؟" ومن قال بخلاف ما اخترت من القول في ذلك أكثر ممن وافقك منهم فيه؟

              [ ص: 739 ] قيل: إن من روي عنه خلاف قولي في ذلك أحد رجلين: إما رجل قال بتنجيس قدر الماء الذي قضيت بطهارته، إذا حلت فيه النجاسة ما لم تغير النجاسة لونه، أو طعمه، أو ريحه بالقليل من النجاسة فيه وكثيرها، فهو مخالف بقوله ما وردت الأخبار الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "إذا كان الماء قلتين لم يحتمل نجسا" ، فالمناظرة بيني وبينه في تصحيح الخبر الوارد عنه بذلك وتسقيمه دون غيره، وإما رجل قال بتطهير قدر الماء الذي قضيت بتنجيسه بحلول النجاسة فيه إذا حلت فيه، فذلك رجل مخالف ما جاءت به الحجة وراثة عن نبيها صلى الله عليه وسلم.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية