الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              79 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن بشر ، قال : حدثنا حكيم بن نافع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان " .  

              [ ص: 61 ] والصواب من القول عندنا في كل هذه الأخبار التي ذكرناها أنها صحاح ، وليس منها شيء مخالف غيره ، بل لكل ذلك وجه مفهوم ، ومعنى غير معنى ما سواه : فأما خبر عبد الرحمن بن عوف ومن وافقه في روايته عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من أمره الشاك فيما صلى من عدد ركعات صلاته ; فإنه أمر منه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - له بالأخذ بالاحتياط ليكون على يقين من أنه لم يبق عليه من صلاته شيء إذا فعل ذلك ، لا إعلام منه أنه إن بنى على الأغلب عنده أنه قد صلى أو على ما يرى أنه قد قضى من صلاته أنها لا تجزئه حتى تلزمه إعادتها إن خرج منها ، وقد بنى على الأغلب عنده ، أو على ما يرى أنه قد صلى وسجد سجدتين ، فإن احتاط الشاك في ذلك فعمل بالذي روى عبد الرحمن بن عوف ، وأبو سعيد ومن روى عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من أمره إياه بالبناء على اليقين والسجود لسهوه بعد فراغه من صلاته ، فهو أحب إلينا وأفضل وعمل بالأحوط لدينه ، والأسلم .

              وإن هو بنى على أكثر رأيه متحريا في ذلك الأغلب عليه في نفسه أنه قد صلى على ما روى عبد الله بن مسعود ، ومن روى ذلك عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لم يكن مخطئا في فعله ; لأن كل مصل فإنما كلف أن يعمل فيها بما عنده من علمه بها في حالة عمله ، لا على إحاطة العلم بيقين ذلك .

              [ ص: 62 ] ولو كان مكلفا اليقين من العلم دون الظاهر ، لم يكن لأحد صلاة ; لأنه لا سبيل لأحد إلى الوصول إلى يقين العلم بذلك .

              وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر عباده المؤمنين على لسان رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بالصلاة في السترة الطاهرة ، ومتطهرين بالمياه الطاهرة ، إذا وجدوها .

              وغير ذلك من الأمور التي يكثر عددها .

              وعليهم في كل ذلك من أداء الواجب عليهم فيه ، مثل الذي عليهم من فرض عدد ركعات الصلاة ، ولا خلاف بين الجميع من سلف علماء الأمة وخلفها أنهم لم يكلفوا في شيء من ذلك إحاطة العلم بيقينه ، لا الماء الذي يطهر ، ولا الثياب التي يصلون فيها .

              وأنهم إنما كلفوا العلم الظاهر عندهم في ذلك كله .

              وكذلك القول في عدد الصلاة التي يكون فيها المصلي ، إنما كلف العلم الذي هو عنده ، فإن بنى على العلم الظاهر عنده أجزأه ، ولم يكن عليه غير ذلك .

              وإن أخذ بالاحتياط فبنى على اليقين الذي لا شك فيه ، فهو أفضل إذا كان له السبيل إلى الوصول إلى يقين علم ذلك .

              وإن لم يكن له السبيل إلى يقين علم ذلك لغلبة وسوسة الشيطان عليه ، مضى فيها على ما عنده في علمه كما على من عرض له شك في صلاته  فيما عليه من السترة : هل هي طاهرة أم لا ؟ فإن كان له السبيل إلى معرفة ذلك بالإحاطة فعليه تعرف ذلك ، وإن لم يكن له السبيل إلى ذلك عمل بالأغلب عليه من ظاهر علمه فيه .

              فكذلك القول في جميع أحكام الدين .

              ومن أبى ذلك أو شيئا منه ، سئل عن القول في المصلي في موضع لا يعلمه طاهرا ولا نجسا ،  إلا علما ظاهرا ، لا على إحاطة يقين العلم بطهره ؟ وعن المصلي متوضئا بما لا يعلمه إلا كذلك ؟ فإن زعم أن عليه الإعادة ، خرج من قول جميع الأمة! [ ص: 63 ] وإن قال : صلاته ماضية .

              سئل الفرق بينه وبين الشاك في عدد صلاته الباني فيها على الأغلب من علمه عليه فيما صلى من عددها ؟ فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله! وكذلك الباني على الأقل من رأيه ، إذا كان عنده أنه قد عمل فبنى عليه ، كالشاك منها في اثنتين أو ثلاث يبني على ثلاث ، وهو يرى أنه قد صلى ثلاثا ، غير أنه شاك في الثالثة : هل صلاها أم لا ؟ فإنه غير جائز أمره بإعادة صلاته إذ كنا لا نعلمه ضيع من صلاته شيئا .

              وإن كان قد ترك الذي نختار له في ذلك إلى غير الذي نختاره له ، وسبيله سبيل رجل شك بعدما سلم من صلاة واجبة عددها أربع ركعات فلم يدر أثلاثا صلاها أم أربعا ؟  في أنه إن قضى الركعة التي شك فيها ، كان أفضل له ، وأحوط لدينه .

              وإن هو لم يقضها لم يجز لنا أن نأمره بإعادة صلاته ، ولا الشهادة عليه بأنه قد ضيع فرضا عليه واجبا .

              وفي هذه الأخبار التي رويناها عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الشاك فيما صلى من عدد ركعات صلاة هو فيها على ما رويناها عنه ، الدلالة الواضحة على سبيل العمل في كل ما شك فيه شاك من الفرائض الواجبة عليه لله : هل أداه أم لا ؟ وذلك كالشاك من رماة الجمار من الحاج في عدد ما رماها به من الحصى ، والشاك من الطائفين بالبيت من الحاج في عدد ما طاف به من الأشواط ، والشاك من الساعين بين الصفا والمروة في عدد ما سعى بينهما من الطواف ، والشاك في شهر رمضان في يوم منه : هل أكل بعد طلوع الفجر أم لا ؟ أو هل أفطر قبل غروب الشمس أم لا ؟ والشاك بعد التطهر للصلاة هل أحدث حدثا نقض طهره أم لا ؟ والمستحاضة يلتبس عليها أيام طهرها من أيام حيضها ، ووقت ذلك .

              والرجل يجب عليه زكاة في ماله ، فيعطيها من يراه فقيرا ، تحل له [ ص: 64 ] الصدقة ، ثم يلتبس عليه أمره ، وأمور كثيرة غير ذلك من أمور الدين .

              وأن العمل في كل ذلك واحد في أنه إن أعاد ، وقضى فبالاحتياط أخذ ، وإن هو عمل بالأغلب من علمه فيه متحريا بذلك الصواب، فقد أصاب، وإن تساهل فيه وتركه قضى ما يرى أنه قد عمله مما هو على غير يقين من تضييعه ، فمعذور غير ملوم ، وإن كان تاركا الاحتياط والاختيار ، للأخبار التي ذكرناها عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الواردة عنه بالمعاني الثلاثة في حكم الشاك فيما قضى ، وفيما بقي عليه من عدد صلاة هو فيها على ما رويناها عنه .

              فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما على من شك في عدد صلاة هو فيها،  فبنى على اليقين أو تحرى ، فبنى على أكثر رأيه فيها ، أو بنى على أكثر ذلك ، متى يجب عليه أن يسجد لشكه في ذلك وسهوه ؟ .

              فقد علمت أن خبر عبد الرحمن وارد بأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر فيها بالسجود قبل السلام، والبناء على اليقين لا شك أنه إن لم يكن زيادة في صلاة الباني ، فغير نقصان منها ؟ ومن قولك أن السجود قبل السلام  إنما يجب في نقصان منها لا في زيادة ؟ وأن خبر ابن مسعود وارد بأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالسجود في ذلك بعد السلام ؟ قيل : القول في ذلك عندنا نظير القول فيما بينا من أمر الشاك في صلاته على ما قد بينا ، وهو أن ذلك إعلام من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن للزائد في صلاته ساهيا الخيار في سجوده لسهوه بين أن يسجده قبل السلام ، وبين أن يسجده بعد السلام ، لا إيجاب منه سجوده قبل السلام .

              وذلك أنه لما كان صحيحا عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الأمران كلاهما - أعني سجوده في السهو في الصلاة في الزيادة بعد السلام ، في حال ، وأمره بالسجود فيها في الزيادة بعد السلام وقبله في أخرى ; علم [ ص: 65 ] من ذلك - إذ لم يكن أحدهما ناسخا للآخر - أنه على الإذن منه لأمته فيه بأي ذلك شاءوا أن يعملوا .

              فإن قال قائل : فلعل أحدهما ناسخ للآخر ؟ قيل : غير جائز كون ذلك كذلك ; لأن ذلك لو كان على وجه النسخ لكان البيان بناسخ ذلك من منسوخه واردا مع ورود الخبرين للعلل التي قد بينا في ذلك في موضعه .

              فإن قال : فهل من مخالف لك في هذا القول الذي قلت في معاني هذه الأخبار والأحكام التي فيها ؟ قيل : أما على ما بينا من التلخيص والتفسير ، فلا نعلم ، ولكن لنا في ذلك مخالفين مجملا من القول .

              فإن قال : فاذكر لنا بعض ذلك .

              قيل : أما الاختلاف فيما ينبغي للشاك في عدد ما صلى أن يعمل ؟ فقد مضى ذكرناه .

              وأما الاختلاف في الحال التي ينبغي له أن يسجد فيها ; فإن ذكر المختلفين في ذلك بتقصيه وتقصي عللهم يطول ، وله موضع غير هذا نأتي عليه بتقصيه ، إذا انتهينا إليه إن شاء الله ، غير أنا نذكر بعض ما حضرنا ذكره من اختلاف بعض السلف في الحال التي ينبغي للشاك السجود في صلاته لشكه فيها .

              ( ذكر ذلك )

              التالي السابق


              الخدمات العلمية