الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 7 ] الباب الثاني

                  قال الرافضي :

                  [1] الفصل الثاني

                  [2]

                  في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع .

                  ومضمون ما ذكره : أن الناس اختلفوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم [3] ، فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة أوجه : لأنه أحقها وأصدقها ; ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ; ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ; ولأنهم [4] أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين [5]

                  وهذا حكاية لفظه :

                  قال الرافضي :

                  [ ص: 8 ] إنه [6] لما عمت البلية بموت النبي - صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه [7] أكثر الناس طلبا للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد [8] ملك الري أياما يسيرة [9] لما خير بينه وبين قتل الحسين [10] مع علمه بأن من قتله في النار [11] ، وإخباره بذلك [12] في شعره [13] ; حيث يقول : [ ص: 9 ]

                  فوالله ما أدري وإني لصادق أفكر [14] في أمري [15] على خطرين     أأترك ملك الري والري منيتي
                  أم [16] أصبح مأثوما بقتل حسين     وفي قتله النار التي ليس دونها
                  حجاب وملك الري [17] قرة عيني

                  .

                  وبعضهم اشتبه الأمر عليه [18] ورأى [19] لطالب [20] الدنيا متابعا [21] فقلده [ وبايعه ] [22] وقصر في نظره ، فخفي عليه الحق ، فاستحق [23] المؤاخذة من الله [24] بإعطاء [25] الحق [ لغير ] [26] مستحقه بسبب إهمال النظر .

                  وبعضهم قلد لقصور فطنته [27] ، ورأى الجم الغفير ، [ ص: 10 ] فتابعهم [28] ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : ( وقليل ما هم ) ، [ سورة ص : 24 ] ، ( وقليل من عبادي الشكور ) ، [ سورة سبأ : 13 ] .

                  وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق [ له ] [29] ، وبايعه الأقلون الذي أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم يأخذهم [30] في الله لومة لائم ، بل أخلصوا لله [31] واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم .

                  وحيث حصل [32] للمسلمين هذه البلية ، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مستقره [33] ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى [34] : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ، [ سورة هود : 18 ] .

                  وإنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه [35] " . هذا لفظه .

                  [ ص: 11 ] فيقال : إنه [ قد ] [36] جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف ، وهذا من أعظم الكذب ، فإنه لم يكن في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة ، فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف : إما طالب للأمر [37] بغير حق [38] كأبي بكر في زعمه ، وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه ، وهذا كذب على علي - رضي الله عنه - وعلى أبي بكر - رضي الله عنه [39] - ، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه ، فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق . وجعل القسمين الآخرين : [ إما مقلدا لأجل الدنيا ] [40] ، وإما مقلدا لقصوره في النظر .

                  وذلك أن الإنسان يجب عليه أن يعرف الحق وأن يتبعه ، وهذا [ هو ] [41] الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم [42] من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وهذا هو الصراط الذي أمرنا الله أن نسأله [43] هدايتنا إياه في كل صلاة ، بل في كل ركعة .

                  وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اليهود مغضوب [ ص: 12 ] عليهم والنصارى ضالون [44] " . وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه استكبارا وحسدا وغلوا واتباعا للهوى ، وهذا هو الغي ، والنصارى ليس لهم علم بما يفعلونه من العبادة والزهد والأخلاق ، بل فيهم الجهل والغلو والبدع والشرك جهلا منهم ، وهذا هو الضلال ، وإن كان كل من الأمتين فيه ضلال وغي ، لكن الغي أغلب على اليهود ، والضلال أغلب على النصارى .

                  ولهذا وصف الله اليهود بالكبر والحسد ، واتباع الهوى والغي وإرادة العلو في الأرض [45] والفساد . قال تعالى : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) ، [ سورة البقرة : 87 ] ، وقال تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) ، [ سورة النساء : 54 ] ، وقال : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ) [ ص: 13 ] ، [ سورة الأعراف : 146 ] ، وقال تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) ، [ سورة الإسراء : 4 ] .

                  ووصف النصارى بالشرك والضلال والغلو والبدع ، فقال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) ، [ سورة التوبة : 31 ] ، وقال تعالى : ( قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) ، [ سورة المائدة : 77 ] ، وقال تعالى : ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ) ، [ سورة الحديد : 27 ] ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

                  وقد نزه الله نبيه عن الضلال والغي ، فقال : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ) ، [ سورة النجم : 1 - 3 ] [46] ، فالضال الذي لا يعرف الحق ، والغاوي الذي يتبع هواه ، وقال تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ) ، [ سورة ص : 45 ] ، فالأيدي القوة [47] في طاعة الله ، والأبصار البصائر في الدين .

                  وقال تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .

                  وإذا كان الصراط المستقيم لا بد فيه من العلم بالحق والعمل به ، [ ص: 14 ] وكلاهما [48] واجب ، لا يكون الإنسان مفلحا ناجيا إلا بذلك ، وهذه الأمة خير الأمم ، وخيرها القرن الأول [49] ، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع والعمل الصالح .

                  وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك ، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه ، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه ، كما يزعمونه في الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة والأمة ، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق ، بل اتبع الظالمين تقليدا لعدم نظرهم المفضي إلى العلم ، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا ، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه .

                  وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق ، يعني عليا [50] ، وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن ، فلزم من ذلك - على قول هؤلاء - أن تكون الأمة كلها [ كانت ] [51] ضالة بعد نبيها [52] ليس فيها مهتد ، فتكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا منهم ; لأنهم [ كانوا ] [53] ، كما قال الله [ تعالى ] [54] : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ، [ سورة الأعراف : 157 ] ، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود والنصارى [ ص: 15 ] افترقت على اثنتين وسبعين [55] فرقة فيها واحدة ناجية [56] ، وهذه الأمة على موجب ما ذكر [57] لم يكن فيهم بعد موت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] [58] أمة تقوم بالحق [59] ولا تعدل به .

                  وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ، ففيما بعد ذلك أولى . فيلزم من ذلك أن يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس ، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون .

                  فإن كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 16 ] من [60] اختلاف الأمة ، فكيف [ بسائر ] [61] ما ينقله ويستدل به ؟

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية