الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ونحن نبين فساد [1] ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة فنقول :

                  أما قوله [2] : " لما عمت البلية [ على كافة المسلمين ] [3] بموت النبي - صلى الله عليه وسلم [4] - واختلف الناس بعده [5] ، وتعددت آراؤهم بحسب أهوائهم [6] ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه [ بغير حق ] [7] ، وبايعه [8] أكثر الناس طلبا للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد [9] ملك الري أياما يسيرة ، لما خير بينه وبين قتل الحسين ، مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك [10] في شعره "

                  [ ص: 17 ] فيقال : في هذا الكلام من الكذب والباطل [11] وذم خيار الأمة بغير حق ما لا يخفى ، وذلك [12] من وجوه :

                  أحدها : " قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم " ، فيكونون كلهم متبعين أهواءهم : ليس فيهم طالب حق ولا مريد لوجه الله تعالى [13] والدار الآخرة ، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال ، وعموم لفظه يشمل عليا وغيره .

                  وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله - ورضي عنهم ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) ، [ سورة التوبة : 100 ] ، وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) ، [ سورة الفتح : 29 ] ، وقال تعالى : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) إلى قوله : ( أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) [ ص: 18 ] [ سورة الأنفال : 72 - 75 ] ، وقال : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] ، وقال تعالى : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) [ سورة الحشر : 8 - 10 ] .

                  وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .

                  ولا ريب أن [ هؤلاء ] [14] الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة ، فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين [15] ، وفي قلوبهم غل عليهم . ففي [16] الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وهذا نقيض [17] مذهب الرافضة .

                  [ ص: 19 ] وقد روى ابن بطة وغيره من حديث [ أبي بدر قال : حدثنا ] [18] عبد الله بن زيد ، عن طلحة بن مصرف ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص قال : الناس على ثلاث [19] منازل ، فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت .

                  ثم قرأ [20] : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [21] ، ثم قال : هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .

                  ثم قرأ : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم [22] .

                  وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال : من سب السلف فليس له في الفيء نصيب ; لأن الله تعالى يقول : ( والذين جاءوا من بعدهم ) الآية [23] .

                  [ ص: 20 ] وهذا معروف من مالك وغير مالك [24] من أهل العلم ، كأبي عبيد القاسم بن سلام ، وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء .

                  وروى أيضا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم [25] ، عن مقسم ، عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما ] [26] قال : أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أنهم يقتتلون .

                  وقال [27] عروة : قالت لي عائشة [ رضي الله عنها ] [28] : يا ابن أختي [29] أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد [30] - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم [31] .

                  وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] [32] قال : قال [ ص: 21 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا [33] ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه [34] .

                  وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] [35] . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق [36] مثل أحد [ ذهبا [37] ] ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه [38] " .

                  وفي صحيح مسلم أيضا ، عن جابر [ بن عبد الله ] [39] قال : قيل لعائشة : إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] [40] حتى أبا [ ص: 22 ] بكر وعمر ، فقالت : وما تعجبون من هذا ؟ [41] انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر [42] .

                  وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أحمد ( * قال : حدثني أبي ، حدثنا معاوية [43] . حدثنا رجاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] [44] . قال : لا تسبوا أصحاب محمد [45] - . فإن الله قد أمر [46] . بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون

                  [47] .

                  [ ص: 23 ] ومن طريق أحمد ، عن عبد الرحمن * ) [48] [49] بن مهدي ، وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم ، ثلاثتهم عن الثوري ، عن نسير بن ذعلوق [50] . : سمعت عبد الله بن عمر يقول : لا تسبوا أصحاب محمد [51] ، فلمقام أحدهم ساعة ، يعني مع رسول الله [52] - صلى الله عليه وسلم - خير من عمل أحدكم أربعين سنة .

                  وفي رواية وكيع : خير من عبادة أحدكم عمره [53] .

                  [ ص: 24 ] وقال تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ) [ سورة الفتح : 18 - 21 ] .

                  والذين بايعوه [54] . تحت الشجرة بالحديبية عند جبل التنعيم [55] \ 321 . كانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، بايعوه لما صده المشركون عن العمرة ، ثم صالح المشركين صلح الحديبية المعروف ، وذلك سنة ست من الهجرة في ذي القعدة ، ثم رجع [ بهم ] [56] ) ، ( م ) . إلى المدينة وغزا بهم خيبر ، ففتحها [57] . الله عليهم في أول سنة سبع ، وقسمها [58] . بينهم ، ومنع الأعراب المتخلفين [59] . عن الحديبية من ذلك .

                  [ ص: 25 ] كما قال [ الله تعالى ] [60] . : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) [ سورة الفتح : 15 ] .

                  وقد أخبر سبحانه أنه رضي عنهم [61] ، وأنه علم ما في قلوبهم ، وأنه أثابهم [62] . فتحا قريبا .

                  وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم ، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم ، بل كان المسلمون [ كلهم ] [63] . يعرفون فضلهم عليهم ; لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] [64] ، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، ولهذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم : أوفتح [65] . هو ؟ فقال " نعم " [66] ) .

                  [ ص: 26 ] وأهل العلم يعلمون أن فيه [67] . أنزل الله تعالى : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا ) [ سورة الفتح : 1 - 3 ] [68] ، فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ! هذا لك فما لنا [ يا رسول الله ] ؟ [69] ; فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) [ سورة الفتح : 4 ] .

                  وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين [70] بعده ، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) [ سورة التوبة : 100 ] هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية