الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والإسماعيلية [1] والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين [2] . . اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا أمر مشهور فيهم [3] ، يعادون خيار عباد الله المؤمنين ، ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم .

                  وقال تعالى : ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ سورة الأنفال : 64 ] ، أي : [ الله ] كافيك [4] . وكافي من اتبعك [5] . من المؤمنين . والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم [6] .

                  [ ص: 33 ] وقال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [7] ، والذين رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره .

                  وقال تعالى : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم ) [ سورة الأنفال : 62 - 63 ] ، وإنما أيده في حياته بالصحابة .

                  وقال تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ) [ سورة الزمر : 33 - 35 ] . وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به ، خلاف الصنف الذي يفتري الكذب ، أو يكذب بالحق لما جاءه ، كما سنبسط القول فيهما [8] . إن شاء الله .

                  والصحابة الذين كانوا يشهدون [9] . أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن القرآن حق [10] ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء .

                  [ ص: 34 ] وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة [ أعظم ] [11] . افتراء [ للكذب ] [12] . على الله ، وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع [13] ، ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم . ومنهم من ادعى إلهية البشر ، وادعى النبوة في غير النبي - صلى الله عليه وسلم ، وادعى العصمة في الأئمة ، ونحو ذلك [14] . مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف ، واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف [15] . المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم .

                  قال تعالى : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ سورة النمل : 59 ] . قال طائفة من السلف : هم أصحاب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] [16] . . ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ) [ سورة فاطر : 32 - 35 ] [17] ، فأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هم [18] . [ ص: 35 ] الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم : اليهود والنصارى ، وقد أخبر الله أنهم الذين اصطفى .

                  وتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " [19] \ 156 . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله .

                  [ ص: 36 ] قال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) [ سورة الفتح : 29 ] [20] .

                  وقال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) [ سورة النور : 55 ] . فقد وعد الله الذين آمنوا [ وعملوا الصالحات ] [21] . بالاستخلاف ، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما ، والله لا يخلف الميعاد ، فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام ، وهو الدين الذي ارتضاه لهم ، كما قال تعالى : ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ ص: 37 ] [ سورة المائدة : 3 ] ، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، لهم منه المغفرة [22] . والأجر العظيم .

                  وهذا يستدل به من وجهين : يستدل به [23] . على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات [24] . ; لأن الوعد لهم لا لغيرهم ، ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ، ولهم مغفرة وأجر [25] . عظيم ; لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان : آية النور وآية الفتح .

                  ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف ، وتمكن الدين والأمن بعد الخوف ، لما قهروا فارس والروم ، وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ، ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار ، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان ، وكان بعضهم يخاف بعضا .

                  وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ، ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن . والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن ، وأدركوا زمن الفتنة - كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى [ الأشعري ] [26] . ومعاوية وعمرو بن العاص - دخلوا في الآية ; لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا .

                  [ ص: 38 ] وأما من [27] . حدث في زمن الفتنة ، كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق ، وكالخوارج المارقين [28] . فهؤلاء لم يتناولهم النص ، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية ; لأنهم : أولا : ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا ، ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة ، بل لا يزالون خائفين مقلقلين [29] . غير ممكنين .

                  فإن قيل : لم قال : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ) [ سورة الفتح : 29 ] ، ولم يقل : وعدهم كلهم ؟ قيل : كما قال : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) [ سورة النور : 55 ] ، ولم يقل : وعدكم [30] .

                  و " من " تكون لبيان الجنس ، فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس ، كما في قوله [ تعالى ] [31] . : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ سورة الحج : 30 ] ، فإنه لا يقتضي أن يكون من الأوثان ما ليس برجس .

                  وإذا قلت : ثوب من حرير ، فهو كقولك : ثوب حرير . وكذلك قولك : باب من حديد ، كقولك : باب حديد ، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه ، وإن كان الذي يتصوره كليا ، [ ص: 39 ] فإن الجنس الكلي هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وإن لم يكن مشتركا فيه في الوجود ، فإذا كانت " من " لبيان الجنس ( * كان التقدير : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا ) من هذا الجنس ، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين * ) [32] . مصلحين [33] .

                  وكذلك إذا قال : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) من هذا الجنس والصنف ( مغفرة وأجرا عظيما ) لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين [34] .

                  ولما قال لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما ) [ سورة الأحزاب : 31 ] [35] ، لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله وتعمل صالحا .

                  ولما قال تعالى : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) [ سورة الأنعام : 54 ] ، لم يمنع هذا [36] . أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة ، ويجوز أن يقال : إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم .

                  [ ص: 40 ] ولهذا تدخل " من " هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس ، كما في قوله تعالى : ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) [ سورة الطور : 21 ] ، وقوله : ( وما من إله إلا الله ) [ سورة آل عمران : 62 ] ، وقوله [37] . : ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) [ سورة الحاقة : 47 ] .

                  ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعا ، فالتحقيق ما ذكر ، والتقدير : كقوله تعالى : ( إله إلا الله ) [ سورة آل عمران : 62 ] ، [ وقوله ] [38] . ( لا ريب فيه ) [ سورة البقرة : 2 ] ونحو ذلك ، بخلاف ما إذا لم تكن " من " موجودة ، كقولك : ما رأيت رجلا ، فإنها ظاهرة لنفي الجنس ، ولكن قد يجوز أن ينفى بها الواحد من الجنس ، كما قال سيبويه : يجوز أن يقال : ما رأيت رجلا بل رجلين ، فتبين [39] . أنه يجوز إرادة الواحد ، وإن كان الظاهر نفي الجنس ، بخلاف ما إذا دخلت " من " فإنها تنفي نفي الجنس قطعا [40] .

                  ولهذا لو قال لعبيده : من أعطاني منكم ألفا فهو حر ، فأعطاه كل واحد ألفا ، عتقوا كلهم ، وكذلك لو قال لنسائه : من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق ، فأبرأنه كلهن ، طلقن كلهن . فإن المقصود بقوله : " منكم " بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج .

                  فإن قيل : فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة [ ص: 41 ] فلا يوجب ذلك أيضا ، [ فليس ] [41] . في قوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) ما يقتضي [42] . أن يكونوا كلهم كذلك .

                  قيل : نعم ، ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، ولكن مقصودنا أن " من " لا ينافي شمول هذا الوصف لهم ، فلا يقول قائل : [ إن ] [43] . الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [44] . إلى آخر الكلام .

                  ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات : وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم ، والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع .

                  والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات ، بل على الإيمان والعمل الصالح ، فذكر ما به يستحقون الوعد ، وإن كانوا [45] . كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر ( * يستحقون المغفرة والأجر العظيم ، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر * ) [46] . الإيمان [ ص: 42 ] والعمل الصالح ، فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب ، كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية