وأما كما قال تعالى : ( لفظ " المتحيز " فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره ، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ) [ سورة الأنفال : 16 ] ، وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي ، ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ، ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي .
وأما أعم من هذا ، فيجعلون كل جسم متحيزا ، والجسم عندهم ما يشار إليه ، فتكون السماوات والأرض وما بينهما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز [1] متحيزا على اصطلاحهم ، وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة .
والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ، ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان ، فيقولون : المكان أمر وجودي [2] ، والحيز تقدير مكان عندهم . فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود ، فلا تكون في مكان ، وهي عندهم متحيزة . ومنهم من [ ص: 556 ] يتناقض [3] فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما ، كالرازي [4] وغيره ، كما ( قد ) [5] بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .
فمن تكلم باصطلاحهم وقال : إن الله متحيز بمعنى ( أنه ) [6] أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ ، فهو سبحانه بائن من خلقه ، وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق . وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق ، وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار . "
وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء ، وهو سبحانه بائن عن [7] خلقه ، فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا ، وقال : يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا ، فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن [8] خلقه ، كما قد بسط في غير هذا الموضوع .
وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية - كما احتج به في رده على الإمام أحمد الجهمية - وعبد العزيز الكناني [9] وعبد الله بن [ ص: 557 ] سعيد بن كلاب وغيرهم ، وبينوا والحارث المحاسبي [10] أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض ، فلما خلقهما [11] فإما [12] أن يكون قد دخل فيهما [13] أو دخلت فيه ، وكلاهما ممتنع ، فتعين أنه بائن عنهما [14] وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له .
والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره [15] ولا مداخلا له ، [16] وهذا ممتنع في بداية العقول ، لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل . ثم إنهم تناقضوا فقالوا : لو كان فوق العرش لكان جسما ، لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب .
فقال لهم أهل الإثبات : ، فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى . معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم ، أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له
وإذا قلتم : نفي هذا الثاني من حكم الوهم الباطل ؛ قيل لكم : [17] فنفي الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل .
[ ص: 558 ] وإن قلتم : إن نفي الأول من حكم العقل المقبول ; فنفي الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول .
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ، والمقصود هنا التنبيه .