الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما لفظ " المتحيز " فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره ، كما قال تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ) [ سورة الأنفال : 16 ] ، وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي ، ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ، ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي .

                  وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا ، فيجعلون كل جسم متحيزا ، والجسم عندهم ما يشار إليه ، فتكون السماوات والأرض وما بينهما [1] متحيزا على اصطلاحهم ، وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة .

                  والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ، ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان ، فيقولون : المكان أمر وجودي [2] ، والحيز تقدير مكان عندهم . فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود ، فلا تكون في مكان ، وهي عندهم متحيزة . ومنهم من [ ص: 556 ] يتناقض [3] فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما ، كالرازي [4] وغيره ، كما ( قد ) [5] بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .

                  فمن تكلم باصطلاحهم وقال : إن الله متحيز بمعنى ( أنه ) [6] أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ ، فهو سبحانه بائن من خلقه ، وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق . وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق ، وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار . "

                  وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء ، وهو سبحانه بائن عن [7] خلقه ، فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا ، وقال : يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا ، فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن [8] خلقه ، كما قد بسط في غير هذا الموضوع .

                  وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية - كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية - وعبد العزيز الكناني [9] وعبد الله بن [ ص: 557 ] سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم ، وبينوا [10] أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض ، فلما خلقهما [11] فإما [12] أن يكون قد دخل فيهما [13] أو دخلت فيه ، وكلاهما ممتنع ، فتعين أنه بائن عنهما [14] وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له .

                  والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره [15] ولا مداخلا له ، [16] وهذا ممتنع في بداية العقول ، لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل . ثم إنهم تناقضوا فقالوا : لو كان فوق العرش لكان جسما ، لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب .

                  فقال لهم أهل الإثبات : معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم ، أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له ، فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى .

                  وإذا قلتم : نفي هذا الثاني من حكم الوهم الباطل ؛ قيل لكم : [17] فنفي الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل .

                  [ ص: 558 ] وإن قلتم : إن نفي الأول من حكم العقل المقبول ; فنفي الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول .

                  وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ، والمقصود هنا التنبيه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية