الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) ] [1] وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى . أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها [2] عباده كالموجود والحي والعليم والقدير ، فقال بعضهم : [3] هي مقولة بالاشتراك اللفظي [4] حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما ، لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا . وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما ، وكالآمدي مع توقفه أحيانا [5] . وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما ، وإنما ذكروا [6] ذلك [ ص: 582 ] لأنهما لا يقولان بالأحوال ، ويقولان : وجود كل شيء عين حقيقته ، فظنوا أن من قال : وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول : إن [7] لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي عليهما ، لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك [ فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته ، والمشترك ليس هو المميز ، فلا يكون الوجود المشترك ] [8] هو الحقيقة المميزة . والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ( 3 ويقول : وجوده زائد على حقيقته ، كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة ، أو قول ابن سينا بأنه متواطئ 3 ) [9] [ أو مشكك ] [10] مع أنه [11] الوجود المقيد [ بسلب كل أمر ثبوتي عنه ] [12] .

                  وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب . [ قالوا : هذا في اسم الحي ] [13] ونحوه ، [ حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا [14] ، وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولا [ ص: 583 ] فاعل ، فلا يسميه باسم يسمى به العبد [15] ] [16] . وذهب أبو العباس الناشئ [17] إلى ضد ذلك فقال : إنها حقيقة للرب مجاز للعبد [18] .

                  وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني ، فلا يدل عليم على علم ، ولا قدير على قدرة ، بل هي أعلام [ ص: 584 ] محضة [19] . وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي [20] .

                  وأصل غلط هؤلاء شيئان : إما نفي الصفات والغلو في نفي التشبيه ، وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج .

                  فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفي الصفات . قالوا : إذا قلنا عليم يدل على علم ، وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات ، وهذا مأخذ ابن حزم ، فإنه من نفاة الصفات [21] مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ، ودعواه أن الذي يقوله : في ذلك هو مذهب أحمد وغيره .

                  وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء [22] من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ، ولم يتفق له من يبين له خطأهم [23] ، ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان [24] . وكذلك قالوا : إذا قلنا : موجود وموجود ، وحي وحي لزم التشبيه ، فهذا أصل غلط هؤلاء .

                  [ ص: 585 ] وأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي [25] ونحوه ، فإنه ظن أنه إذا [26] كان هذا موجودا وهذا موجودا ، والوجود شامل لهما ، كان بينهما وجود مشترك كلي في الخارج ، فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا ، والمميز إنما هو الحقيقة ، فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة .

                  ثم إن [27] هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم [28] إلى واجب وممكن أو قديم [29] ومحدث ، كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية . لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ " سهيل " القول على [ سهيل ] [30] الكوكب وعلى سهيل بن عمرو ، فإن تلك لا يقال فيها : إن هذا ينقسم إلى كذا [ ص: 586 ] وكذا ، ولكن يقال : إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى ، وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي .

                  وهناك تقسيم عقلي : تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام ، مورد التقسيم مشترك بين الأقسام . وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل [31] لفظ الوجود مشككا لكون [32] الوجود الواجب أكمل ، كما يقال : في لفظ " السواد " و " البياض " المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج .

                  ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها ، بل أكثرها كذلك ، وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي . ولهذا كان من الناس من قال : هو نوع من المتواطئ [33] لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما ، بل بإزاء القدر المشترك .

                  وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي ، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة ، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة ، وإذ جعلت المتواطئة نوعين : متواطئا [34] عاما وخاصا ، كما جعل الإمكان نوعين : عاما وخاصا ، زال اللبس .

                  والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرين [ ص: 587 ] أن هذه الأسماء عامة كلية - ( 1 سواء سميت متواطئة أو مشككة 1 ) [35] - ليست ألفاظا [36] مشتركة اشتراكا لفظيا فقط . وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية ، وهو مذهب سائر المسلمين : أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم ، إلا من شذ [37] .

                  وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء [38] ، فجوابها من وجهين : تمثيل وتخييل [39] . أما التمثيل فأن يقال : القول في لفظ " الوجود " كالقول في لفظ " الحقيقة " و " الماهية " و " النفس " و " الذات " ، وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن ، بل تقال على كل موجود .

                  فهم إذا قالوا : يشتركان في الوجود ، ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته .

                  ( 6 قيل لهم : القول في لفظ " الحقيقة " كالقول في لفظ " الوجود " ، فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة ، كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا ، وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به ، كما هو ممتاز عنه بحقيقته 6 ) [40] التي تختص به فقول القائل : إنهما يشتركان [41] في مسمى الوجود ، ويمتاز كل [ ص: 588 ] [ واحد ] [42] منهما بحقيقته التي تخصه [43] ، ( * كما لو قيل : هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما * ) [44] بوجوده الذي يخصه .

                  وإنما وقع الغلط لأنه أخذ الوجود مطلقا لا مختصا ، وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ، ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد [45] مطلقا ويمكن أن يوجد [46] مختصا ، فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم ، وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص ، وأما [47] أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس .

                  وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا [48] [ أنه ] [49] إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود ، يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا ، وهو نفسه في هذا ، فيكون نفس المشترك فيهما ، والمشترك لا يميز ، فلا بد له من مميز .

                  وهذا غلط فإن قول القائل : يشتركان في مسمى الوجود ، أي يشتبهان في ذلك [50] ويتفقان فيه ، فهذا [51] موجود وهذا موجود ، ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتة .

                  [ ص: 589 ] وإذا قيل : يشتركان في الوجود المطلق الكلي ، فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن ، فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه ، بل هذا له حصة منه ، وهذا له حصة منه ، وكل من الحصتين [52] ممتازة عن الأخرى .

                  ومن قال : المطلق جزء من المعين ، ( * والموجود جزء من هذا الموجود [53] ، والإنسان جزء من هذا الإنسان : إن أراد به أن المعين * ) [54] يوصف به ، فيكون صفة له ، ومع كونه صفة له ، فما هو صفة له [55] لا توجد عينه لآخر [56] ، فهذا معنى صحيح ، ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق .

                  وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه ، فهذا مكابرة .

                  وإن قال : إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع ، فإن النوع أيضا كلي [57] .

                  والكليات الخمسة : كليات الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة ، والعرض العام ; والقول فيها واحد ، فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ، ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان .

                  [ ص: 590 ] وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل ، هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج ، فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ، [ ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا ] [58] ، بل الإنسان موصوف بهذا وهذا [ وهذا ] [59] بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان ، وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان ، وبصفة يوجد نظيرها في كل نام .

                  وأما نفس الصفة التي قامت به [60] ، ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة ، فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ، ولا هو [61] مركب من عام وخاص .

                  وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات ، وكثير من المتكلمين في مسألة الحال . وبسبب ذلك [62] غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات [63] فيما يتعلق بهذا ، ( 7 فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات 7 ) [64] ، والمشترك عين المميز [65] ، فصاروا حزبين : حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج ، لكنه قال : لا موجودة ولا معدومة ، لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو [ ص: 591 ] صفات للأعيان ، ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم ، [ فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره .

                  وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا : لا عموم ] [66] ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني .

                  والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان ، وهي معاني الألفاظ العامة ، فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ ، فالخط يطابق اللفظ ، واللفظ يطابق المعنى ، والمعنى عام ، وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى ، وعموم الخط يطابق عموم اللفظ .

                  وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض [ الألفاظ ، وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني ؟ فقيل : يكون أيضا [67] من عوارض ] [68] المعاني ، كقولهم مطر عام ، وعدل عام ، وخصب عام .

                  وقيل : بل ذلك مجاز ; لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة ، وكذلك الخصب والعدل [69] .

                  والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم [70] اللفظ سواء ، بل اللفظ دليل على ذلك المعنى ، فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان ؟ فأما [71] المعاني الخارجية [72] فليس فيها [ ص: 592 ] شيء بعينه عام ، وإنما العموم للنوع : كعموم الحيوانية للحيوان ، والإنسانية للإنسان .

                  فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم [73] لغير الألفاظ من جنس واحد ; ومن فهم الأمر على ما هو عليه ، تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا .

                  وإذا قال : نوعه موجود ، أو الكلي [74] الطبيعي موجود ، أو الحقيقة موجودة ، أو الإنسانية من حيث هي موجودة ، ونحو هذه العبارات ، فالمراد به [75] أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه [76] ومثله ونحو ذلك .

                  والمتماثلان يجمعهما [77] نوع واحد ، وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا ، لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن . وأنت إذا قلت : الإنسانية موجودة في الخارج ، والكلي الطبيعي موجود في الخارج ، كان صحيحا : بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج ، لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا ; كما أنك إذا قلت : زيد في الخارج ، فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن ، بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج .

                  [ ص: 593 ] ومن هنا تنازع الناس في مسألة [78] الاسم والمسمى ، ونزاعهم شبيه [79] بهذا النزاع ، وأنت [80] إذا نظرت في [ الماء أو ] المرآة [81] فقلت : هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح ، وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة [82] ، ولكن ذلك شوهد في المرآة ، وظهر في المرآة ، وتجلى في المرآة .

                  فإذا قلت : الكليات في الخارج [ فصحيح ] [83] ، أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح ، لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس [ الأمر ] [84] شيء من الموجودات الخارجية [85] .

                  وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على [ كثير من ] [86] المنطقيين وغلطوا فيها ، مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود [87] ، فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده ، وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية ، وغير ذلك من مسائلهم .

                  ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج ، فإذا [ ص: 594 ] جعلت الماهية اسما لما في الذهن ، والوجود اسما لما في الخارج ( 1 فالفرق ثابت ، كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج 1 ) [88] .

                  لكن لما كان [89] لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل : " ما هو ؟ " ، وجواب هذا هو المقول في جواب : " ما هو " [90] ، وذلك كلام يتصور معناه المجيب ، عبر بالماهية [91] عن الصور الذهنية ، وأما الوجود فهو تحقق [92] الشيء في الخارج .

                  لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا ، بل زعموا أن ماهيات [93] الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة ، فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج ، هو المثلث المتصور [94] في الذهن الذي لا وجود له في الخارج ، وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده [ في الخارج ، فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده ] [95] ، وما علمت [96] حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهن .

                  [ ص: 595 ] ومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج ، أو مقدارا [97] مجردا في الخارج ، وكل هذا غلط ، وهذا مبسوط في موضع آخر . وإنما نبهنا هنا على هذا ؛ لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ، ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ، ضلوا في مسألة وجود الخالق ، التي هي رأس كل معرفة ، والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة . وقد كتبنا في مسألة " الكليات " كلاما مبسوطا مختصا بذلك [98] ، لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك [99] .

                  وبهذا يتبين [100] غلط النفاة في لفظ التشبيه ، فإنه يقال : الذي يجب نفيه عن الرب تعالى : اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين ، كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق ، أو أن [101] يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب ، وأما إذا قيل حي وحي ، وعالم وعالم ، وقادر وقادر ، أو قيل : لهذا قدرة ولهذا قدرة ، ولهذا علم ولهذا علم ، كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ، ونفس علم العبد لا يتصف به الرب ، تعالى عن ذلك ، وكذلك في سائر الصفات ، [ بل ولا يماثل هذا هذا ] [102] ، [ ص: 596 ] وإذا اتفق العلماء [103] في مسمى العلم ، والعالمان في مسمى العالم [104] ، فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفي [105] لا بشرع ولا بعقل ، ولا يمكن نفي ذلك إلا بنفي وجود الصانع .

                  ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور [106] ، وليس في إثبات هذا محذور ، فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر ، وقولنا : إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة ، وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا .

                  فالأسماء والصفات نوعان : نوع يختص به الرب ، مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك ، فهذا لا يثبت [107] للعبد بحال ; ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا .

                  والثاني : ما يوصف به العبد في الجملة ، كالحي والعالم والقادر ، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا ، فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له [108] للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، وذلك يستلزم اجتماع النقيضين ، كما تقدم بيانه .

                  [ ص: 597 ] وإذا قيل : فهذا يلزم [109] فيما اتفقا فيه ، كالوجود والعلم والحياة .

                  قيل : هذه الأمور لها ثلاثة [110] اعتبارات : أحدها : ما يختص به الرب ، فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ، ليس للعبد فيه نصيب .

                  والثاني : ما يختص بالعبد ، كعلم العبد وقدرته وحياته ، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم [111] لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته ، فإنه لا اشتراك فيه .

                  والثالث : المطلق الكلي ، وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة ، فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما ، وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما ، وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما .

                  فالواجب أن [ يقال ] [112] : هذه صفة كمال حيث كانت ، فالحياة والعلم [113] والقدرة صفة كمال لكل موصوف ، والجائز عليهما اقترانهما [114] بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام . فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل ، اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة . وأما الممتنع عليهما [115] فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف [ ص: 598 ] [ قائم بنفسه ، وهذا ممتنع عليها [116] في كل موضع ، فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف ] [117] ، وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية