الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) قال الرافضي المصنف : [1] " وقالت الكرامية : إن الله [2] في جهة فوق ; ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة [3] [ فهو محدث ] [4] ومحتاج إلى تلك الجهة " .

                  فيقال له أولا : لا الكرامية ولا غيرهم يقولون : إنه في جهة موجودة تحيط به [5] أو يحتاج إليها ، بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني [6] عن كل ما سواه : سمي جهة أو لم يسم [7] .

                  نعم قد يقولون : " هو في جهة " ويعنون بذلك أنه فوق العالم ، فهذا مذهب الكرامية وغيرهم [8] ، وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم [9] كما [ ص: 642 ] تقدم ذكره ، وأنت لم تذكر حجة على إبطاله ، فمن شنع على الناس بمذاهبهم [10] ، فلا بد أن يشير إلى إبطاله [11] ، وجمهور الخلق [12] على أن الله فوق العالم ، وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ " الجهة " فهم يعتقدون بقلوبهم [ ويقولون ] [13] بألسنتهم أن [14] ربهم فوق ، ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه ، كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني [15] لبعض [ ص: 643 ] من أخذ ينكر الاستواء ويقولون [16] : لو استوى على العرش لقامت به الحوادث ، فقال أبو جعفر [17] ما معناه : إن الاستواء علم بالسمع ، ولو لم يرد به لم نعرفه ، وأنت قد تتأوله ، فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ، فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلا وقبل أن ينطق بلسانه [18] ، يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟ فلطم المتكلم رأسه [19] وقال : حيرني الهمداني ، [ حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ] [20] .

                  ومضمون كلامه [21] أن دليلك على النفي لو صح فهو [22] نظري ، ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا [23] ، فنحن مضطرون إلى هذا العلم [24] وإلى [ ص: 644 ] هذا القصد ، فهل عندك [ من ] حيلة [25] في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ; ثم بعد ذلك قرر نقيضه .

                  وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن ، لأن النظريات [26] غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية . فالضروريات أصل النظريات ، فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات ، فتبطل الضروريات والنظريات ، ( 3 فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير 3 ) [27] ، إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضي فساده في نفسه ، وإذا فسد بطل قدحه ، ( * فيكون قدحه باطلا على [ تقدير ] صحته [28] وعلى تقدير فساده * ) [29] ، فإن صحته مستلزمة لصحة أصله ، فإذا صح كان أصله صحيحا ، وفساده لا يستلزم فساد أصله ، إذ قد يكون الفساد منه ، ولو قدح في أصله للزم فساده ، وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه ، فلا يقبل قدحه بحال .

                  ( * وهذا [ لأن ] [30] الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ، ومن فساد الأخرى ، ومن فساد النظم ، فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات ، بخلاف المقدمات ، فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل * ) [31] .

                  [ ص: 645 ] وأيضا ، فإن هؤلاء قرروا ذلك [32] بأدلة عقلية ، كقولهم : كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان [33] ، وقالوا : إن العلم بذلك ضروري ، وقالوا : إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل .

                  وأيضا ، فمن المعلوم أن القرآن نطق [34] بالعلو في مواضع كثيرة [ جدا ] [35] ، حتى قد قيل [36] إنها نحو [37] ثلاثمائة موضع ، والسنن متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك ، وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم [38] من ينكره .

                  ومن يريد التشنيع على الناس ، ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة . ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه [39] ، وهو لم يذكر دليلا إلا قوله : " ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة " .

                  فيقال له : لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك [40] ، فإن قولك : ما هو محتاج إلى تلك الجهة ، إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغني عنها ، فلا ريب أن من قال : إن الباري لا يقوم [ ص: 646 ] إلا بمحل يحل فيه لا يستغني عن ذلك وهي مستغنية عنه ، فقد جعله محتاجا إلى غيره ، وهذا لم يقله أحد .

                  وأيضا لم نعلم أحدا قال : إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته ، فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته . ولا يقول أحد : إن الله محتاج إلى العرش ، مع أنه خالق العرش ، والمخلوق مفتقر إلى الخالق ، لا يفتقر الخالق إلى المخلوق ، وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات ، وهو الغني عن العرش ، وكل ما سواه فقير إليه .

                  فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون : إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم ، كيف وهم يقولون : إنه كان موجودا قبل العرش ؟ فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش .

                  وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه ، فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ، ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله ، فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها ، وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها ، وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجة إلى ذلك ، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته [41] لكونه فوقها عاليا عليها ؟ !

                  [ ص: 647 ] ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء ، وأنه لا حول ولا قوة إلا به ، وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها ، بل نقول : إنه خالق أفعال [42] الملائكة الحاملين للعرش [43] ; فإذا كان هو الخالق لهذا كله ، ولا حول ولا قوة إلا به ، امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره .

                  ولو احتج عليه سلفه مثل يونس [ بن عبد الرحمن ] القمي [44] وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا ، لم يكن له [45] عليهم حجة ، فإنهم يقولون : لم نقل إنه محتاج إلى غيره ، بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ، ولكن قلنا : إنه على كل شيء قدير ، فإذا جعلناه قادرا على هذا ، كان ذلك وصفا له بكمال الاقتدار ، لا بالحاجة إلى الأغيار .

                  [ ص: 648 ] وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ " الجهة " يراد به أمر موجود وأمر معدوم ; فمن قال : إنه فوق العالم كله ، لم يقل : إنه في جهة موجودة ، إلا أن يراد [46] بالجهة ( * العرش ، ويراد بكونه فيها أنه عليها ، كما قد [47] قيل في قوله : إنه في السماء ، أي على السماء .

                  وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها ، وهو غني عنها ، لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها ، فضلا عن أن يحتاج إليها .

                  وإن أريد بالجهة * ) [48] ما فوق العالم ، فذاك ليس بشيء ، ولا هو أمر موجود [49] حتى يقال : إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه . وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا أنه [50] إذا كان في جهة كان في [ كل ] [51] شيء غيره ، كما يكون الإنسان في بيته [ وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ] [52] ، ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره ، والله تعالى غني عن كل ما سواه ، وهذه مقدمات كلها باطلة .

                  وكذلك قوله : " كل ما هو في جهة فهو محدث " لم يذكر عليه دليلا ، وغايته [53] ما تقدم من أن [ الله ] [54] لو كان في جهة لكان جسما ، وكل جسم [ ص: 649 ] محدث ، لأن الجسم لا يخلو من الحوادث [ وما لا يخلو من الحوادث ] [55] فهو حادث .

                  وكل هذه المقدمات فيها نزاع : فمن الناس من يقول : قد يكون في الجهة ما ليس بجسم ; فإذا قيل له : هذا خلاف المعقول ، قال : هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول : إنه لا داخل العالم ولا خارجه ، فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى ، وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى ، وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة ، [ فثبت أنه في الجهة ] [56] على التقديرين .

                  ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث ، كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم ، والكلام معهم .

                  وهؤلاء لا يسلمون [ له ] [57] أن الجسم لا يخلو من الحوادث ، بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث ، كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل [58] .

                  وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة [59] ينازعهم [60] في قولهم : إن ما لا يخلو عن الحادث [61] فهو حادث .

                  [ ص: 650 ] وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة [ الموافقين ] للمعتزلة [62] عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من [ الرافضة ] [63] فضلا ، عن غيرهم من الطوائف .

                  تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله : ( فصل ) : قال الرافضي : وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية