الوجه الرابع :
أن : قوله عن أهل السنة إنهم لم يثبتوا العدل ، والحكمة ، وجوزوا عليه فعل القبيح ، والإخلال بالواجب نقل باطل عنهم من وجهين
أحدهما : أن كثيرا من أهل السنة الذين لا يقولون في الخلافة بالنص [1] على ، ولا بإمامة الاثني عشر يثبتون ما ذكره من العدل ، والحكمة على الوجه الذي قاله هو - وشيوخه عن هؤلاء أخذوا ذلك - علي كالمعتزلة ، وغيرهم ممن وافقهم متأخرو [2] الرافضة على القدر ، فنقله عن جميع أهل السنة [ ص: 134 ] - الذين هم في اصطلاحه ، واصطلاح العامة [ من ] [3] سوى الشيعة - هذا القول كذب بين [4] منه .
الوجه الثاني : أن سائر أهل السنة الذين يقرون بالقدر ليس فيهم من يقول : إن الله [ تعالى ] [5] ليس بعدل ، ولا من يقول : [ إنه ] [6] ليس بحكيم ، ولا فيهم من يقول : إنه يجوز أن يترك . واجبا ، ولا أن يفعل قبيحا .
فليس في المسلمين من يتكلم بمثل هذا الكلام الذي أطلقه ، ومن أطلقه كان [7] كافرا مباح الدم باتفاق المسلمين .
ولكن هذه مسألة القدر ، والنزاع فيها معروف بين المسلمين : فأما نفاة القدر - كالمعتزلة ، ونحوهم - فقولهم هو الذي ذهب إليه متأخرو الإمامية .
و [ أما ] المثبتون [8] للقدر ، وهو جمهور الأمة ، وأئمتها كالصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وأهل البيت ، وغيرهم ، فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله ، وحكمته ، والظلم الذي يجب تنزيهه عنه ، وفي تعليل أفعاله ، وأحكامه ، ونحو ذلك .
فقالت طائفة : إن الظلم ممتنع منه غير مقدور ، وهو محال لذاته كالجمع بين النقيضين [9] ، وإن كل ممكن مقدور ، فليس هو ظلما ، وهؤلاء . [ ص: 135 ] هم الذين قصدوا الرد عليهم ، وهؤلاء يقولون : إنه لو عذب المطيعين ، ونعم العصاة لم يكن ظالما [10] ، وقالوا : الظلم التصرف فيما ليس له ، والله تعالى له كل شيء ، أو هو مخالفة الأمر ، والله لا آمر له ، وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر ، ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة .
وقالت طائفة : بل الظلم مقدور ممكن ، والله تعالى منزه [11] لا يفعله لعدله ، ولهذا مدح الله نفسه [12] حيث أخبر أنه لا يظلم الناس شيئا ، والمدح إنما يكون بترك المقدور [ عليه ] [13] لا بترك الممتنع .
قالوا : وقد قال تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ) [ سورة طه : 112 ] قالوا : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن يهضم حسناته .
وقال تعالى : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) [ سورة هود : 100 - 101 ] ، فأخبر [14] أنه لم يظلمهم لما أهلكهم ، بل أهلكهم بذنوبهم .
وقال تعالى : ( وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ) [ سورة الزمر : 69 ] ، فدل على أن القضاء بينهم بغير القسط ظلم ، والله منزه عنه .
وقال تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) [ سورة الأنبياء : 47 ] . [ ص: 136 ] أي لا تنقص من حسناتها ، ولا [15] تعاقب بغير سيئاتها ، فدل على أن ذلك ظلم ينزه الله عنه .
وقال تعالى : ( قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) [ سورة ق : 28 - 29 ] ، وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا عن الممتنع [16] لنفسه .
ومثل هذا في القرآن في غير موضع مما يبين أن الله ينتصف من العباد ، ويقضي بينهم بالعدل ، وأن القضاء بينهم بغير العدل ظلم ينزه [17] الله عنه ، وأنه لا يحمل على أحد ذنب غيره .
وقال تعالى : [18] ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ سورة الأنعام : 164 ] ، فإن ذلك ينزه الله عنه ، بل لكل نفس ما كسبت ، [ وعليها ما اكتسبت ] [19] .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [20] يقول : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . ) أن الله [ تعالى ] [21] ، فقد حرم على نفسه الظلم ، كما كتب على نفسه الرحمة في قوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] .
[ ص: 137 ] وفي [ الحديث ] الصحيح : [22] ( [23] فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي . ) لما قضى الله الخلق كتب في كتاب [24] ، والأمر الذي كتبه الله [25] على نفسه ، أو حرمه على نفسه لا يكون إلا مقدورا له [26] [ سبحانه ] [27] ، فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ، ولا يحرمه على نفسه .
وهذا القول قول أكثر أهل السنة ، والمثبتين [28] للقدر من أهل الحديث ، والتفسير ، والفقه ، والكلام ، والتصوف [ من أتباع الأئمة الأربعة ، وغيرهم ] [29] .
وعلى هذا القول ، فهؤلاء هم [30] القائلون بعدل الله [ تعالى ] [31] ، وإحسانه دون من يقول من القدرية : إن من فعل كبيرة حبط إيمانه ، فإن هذا نوع من الظلم الذي نزه الله [ سبحانه ] [32] نفسه عنه ، وهو القائل : [ ص: 138 ] ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ سورة الزلزلة : 7 - 8 . ] .
وأما من اعتقد أن منته على المؤمنين بالهداية دون الكافرين ظلم منه ، فهذا جهل لوجهين :
أحدهما : أن هذا تفضل [ منه ] [33] ، كما قال تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) [ سورة الحجرات : 17 ] .
وكما قالت الأنبياء : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) [ سورة إبراهيم : 11 ] ، وقال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ سورة الأنعام : 53 ] .
فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم ، وقوة ، وصحة ، وجمال [34] ، ومال . قال تعالى : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) [ سورة الزخرف : 32 ] .
وإذا خص أحد الشخصين بقوة ، وطبيعة تقضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة ، [ والعافية ] [35] ، وإذا [36] لم يعط الآخر ذلك [37] نقص عنه ، وحصل له ضعف ، ومرض .
[ ص: 139 ] والظلم . [38] وضع الشيء في غير موضعه ، فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها [39] على محسن أبدا .
وفي الصحيحين [40] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( . ) يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يقبض ، ويبسط [41] فبين [42] ، ولهذا قيل : كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل . أنه سبحانه يحسن ، ويعدل ، ولا يخرج فعله عن العدل ، والإحسان
ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم ، وأن إنعامه عليهم إحسان منه ، كما في الحديث الصحيح الإلهي : [43] إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن [ ص: 140 ] وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه . ) يقول الله تعالى : ( يا عبادي [ إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ] [44] .
وقد قال [45] تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [ سورة النساء : 79 ] أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر ، والرزق ، فالله أنعم بذلك عليك ، وما أصابك من نقم [46] تكرهها ، فبذنوبك ، وخطاياك ، فالحسنات ، والسيئات هنا [47] أراد بها النعم ، والمصائب ، كما قال تعالى : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات ) [ سورة الأعراف : 68 ] ، وكما قال [ تعالى ] [48] : ( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) [ سورة التوبة : 50 ] ، وقوله تعالى : ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) [ سورة آل عمران : 120 ] .
ومثل هذا قوله [ تعالى ] [49] : ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ) [ سورة الروم : 36 ] .
فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى [ ص: 141 ] عباده ، وما أصابهم [ به ] [50] من العقوبات ، فبذنوبهم ، وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع أخر [51] .
وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن لكن تنازعوا في تفسير ذلك . الله تعالى موصوف بالحكمة
فقالت طائفة : الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد ، وإيقاعها على الوجه الذي أراده ، ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة .
وقال الجمهور من أهل السنة ، وغيرهم : بل هو حكيم في خلقه ، وأمره ، والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما ، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة ، بل الحكمة [ تتضمن ] [52] ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة ، والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط ، بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير ، والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم . فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية ، وإنما ينازع . [53] في ذلك [ ص: 142 ] طائفة من نفاة القياس [54] . وغير نفاته ، وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم .
وأصحاب القول الأول كجهم [ بن صفوان وموافقيه ] : ومن وافقه كالأشعري [55] من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم يقولون : ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله ، بل ليس فيه إلا لام العاقبة . وأحمد
وأما الجمهور فيقولون : بل [56] لام التعليل داخلة في أفعال الله تعالى ، [ وأحكامه ] [57] .
والقاضي أبو يعلى [58] ، وأبو الحسن بن الزاغوني [59] ، ونحوهما من أصحاب ، وإن كانوا [ قد ] أحمد [60] يقولون بالأول ، فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع ، وكذلك أمثالهم من الفقهاء [ أصحاب ، مالك ، وغيرهما ] والشافعي [61] .
[ ص: 143 ] . وأما ابن عقيل [62] . والقاضي . [63] في بعض المواضع ، وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى [64] ، وأبو الخطاب [65] ، فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله تعالى موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر .
والحنفية هم من أهل السنة القائلين بالقدر ، وجمهورهم يقولون بالتعليل ( * والمصالح ، والكرامية [66] ، وأمثالهم هم [67] أيضا من القائلين [ ص: 144 ] بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين ، لأبي بكر ، وعمر ، وهم أيضا يقولون بالتعليل * ) وعثمان [68] ، والحكمة ، وكثير من أصحاب [ مالك ] [69] ، والشافعي يقولون بالتعليل ، والحكمة ، وبالتحسين والتقبيح [ العقليين ] وأحمد [70] كأبي بكر القفال [71] ، وأبي علي ابن أبي هريرة [72] ، وغيرهم من أصحاب ، الشافعي وأبي الحسن التميمي [73] ، وأبي الخطاب
[74] من أصحاب . أحمد