وهذه المسألة [1] : مسألة مسألة عظيمة ، لعلها أجل المسائل الإلهية ، وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع ، وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر ، وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل غايات أفعال الله ونهاية حكمته [2] ظلما ، سواء قيل : إن الظلم ممتنع من الله ، أو قيل [3] : إنه مقدور ، فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره ، فأما عقوبته على فعله الاختياري ، وإنصاف المظلومين من الظالمين ، فهو من كمال عدل الله تعالى .
وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير [4] بين مذهب القدرية الذين [ ص: 40 ] يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم ، وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال [5] الله حكمة [6] ، ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ، ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال : هو عدل وإحسان ، وبين ما يقال هو ظلم .
وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات [7] القدرية ، حتى غلوا في الناحية الأخرى ، وخيار الأمور أوسطها ، ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي ، وبين عقوبته على اللون والطول [8] ، كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس ، فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه ، فهو الذي فعله باختياره وقدرته ، وإن كان كذلك كله [9] مخلوقا ، كما يعاقبه [10] غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا .
وأما قوله : " ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان " فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات : إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل ، فكل [11] من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ، ولكن يكون [12] عاجزا عنه . وهؤلاء قد [13] يقولون لا يكلف [ ص: 41 ] العبد [14] ما يعجز عنه ، ولكن يكلف ما يقدر عليه [15] بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل [16] .
وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه . و [ ليس ] هذا [17] قول جمهور أهل السنة ، بل جمهور أهل السنة [18] يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي ، وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ، ويقولون أيضا : إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوزون [19] أن يوجد الفعل بقدرة معدومة [ ولا بإرادة معدومة ] [20] ، كما لا يوجد بفاعل معدوم .
وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ، ومن قابلهم من المثبتة يقولون : لا تكون إلا مع الفعل .
وقول [ الأئمة ] والجمهور [21] هو الوسط : أنها لا بد أن تكون معه ، وقد تكون مع ذلك قبله [22] [ كقدرة المأمور العاصي ] [23] ، فإن تلك القدرة تكون متقدمة [24] على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع [25] ، كما قال تعالى : [ ص: 42 ] ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ سورة آل عمران 97 ] فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ، ولم يعاقب أحد [26] على ترك الحج . وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام .
وكذلك قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن 16 ] ، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولا يعاقب من لم يتق [27] ، وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام .
وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة [28] والشيعة وغيرهم قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ، لتكون صالحة للضدين : الفعل والترك ، وأما حين الفعل [29] [ فلا يكون إلا الفعل ، فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ ] [30] لا يكون قادرا ; لأن القادر لا بد أن [31] يقدر على الفعل والترك ، وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا .
وأما أهل السنة فإنهم يقولون : لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ، ثم أئمتهم قالوا : ويكون أيضا قادرا قبل الفعل . وقالت [32] طائفة منهم لا يكون [ ص: 43 ] قادرا إلا حين الفعل . وهؤلاء يقولون : إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم [33] فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه ، إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم [34] أحد الضدين ، والمقارن للشيء مستلزم له [35] لا يوجد مع عدمه ، فإن وجود [36] الملزوم بدون اللازم ممتنع ، وما قالته القدرية [ فهو ] بناء على أصلهم [37] الفاسد ، وهو أن إقدار الله المؤمن [38] والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون : إن الله خص المؤمن [39] المطيع بإعانة حصل بها الإيمان ، بل يقولون : إن إعانته للمطيع [40] والعاصي سواء ، ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة ; وهذا بنفسه رجح المعصية . كالوالد الذي أعطى [41] كل واحد من ابنيه [42] سيفا ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق ، أو أعطاهما مالا ، فهذا أنفقه في سبيل الله ، وهذا أنفقه في سبيل الشيطان .
وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن [43] نعمة دينية خصه بها دون [ ص: 44 ] الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر ، كما قال تعالى : لله على عبده المطيع [ المؤمن ] ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ سورة الحجرات : 7 ] ، فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم .
فالقدرية تقول : [44] هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق [45] ، أو هو [46] بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق . والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ، ولهذا قال : ( أولئك هم الراشدون ) ، والكفار ليسوا راشدين .
وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ سورة الأنعام : 125 ] .
وقال : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون [ سورة الأنعام : 122 ] .
وقال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ سورة الأنعام : 53 ] .
وقال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ سورة الحجرات : 17 ] .
[ ص: 45 ] وقد أمر الله عباده أن [47] يقولوا : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم .
والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون [48] من فعل الله تعالى . وهذه الهداية المطلوبة غير الهدى الذي هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتبليغه .
وقال تعالى : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [ سورة المائدة ] .
وقال تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم [ سورة النور : 21 ] .
وقال الخليل صلى الله عليه وسلم : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا [ سورة البقرة : 128 ] .
وقال تعالى : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ سورة السجدة : 24 ] .
وقال تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ سورة القصص : 41 ] .
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه [49] عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح ، والعقل يدل على ذلك ، فإنه إذا [50] قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك ، كان [ ص: 46 ] اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد [51] المثلين على الآخر بلا مرجح ، وذلك معلوم الفساد بالضرورة . وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع ، فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع .
وغايتهم أن قالوا : القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، كالجائع والخائف . وهذا فاسد ، فإنه مع استواء الأسباب [52] الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان .
وأيضا فقول القائل : يرجح بلا مرجح ، إن كان لقوله " يرجح " معنى زائد على وجود الفعل [53] فذاك هو السبب المرجح ، وإن لم يكن له معنى زائد ، كان حال الفعل قبل وجود الفعل [54] كحاله [55] عند الفعل [56] ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى [57] بلا مرجح ، وهذا [58] مكابرة للعقل .
فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء ، امتنع على أصلهم [59] أن يكون مع الفعل قدرة تخصه [60] ; [ ص: 47 ] لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل ، والقدرة لا تكون إلا من الله ، وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل . ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك . فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ، وهذا باطل قطعا ; لأن [61] وجود الأثر مع عدم [62] بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل ، فنقيض قولهم حق ، وهو أن الفعل [63] لا بد أن يكون معه قدرة ، لكن صار أهل الإثبات هنا [64] حزبين ؛ حزبا قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظنا منهم أن القدرة نوع واحد [ لا تصلح للضدين [65] ] ، وظنا من بعضهم [66] أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل .
والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن : نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، فهذه تحصل القدرة نوعان [67] للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى [68] إلى حين [ ص: 48 ] الفعل : إما ببقائها [69] عند من يقول ببقاء الأعراض [70] ، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول : إن الأعراض لا تبقى ، وهذه قد تصلح [71] للضدين .
وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز ، وهذه المذكورة في قول الله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ سورة النساء : 25 ] ، وقوله تعالى : وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون [ سورة التوبة : 42 ] ، وقوله في الكفارة : فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ سورة المجادلة : 4 ] فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل ، فلا يكون مع الفعل .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : " [72] ، فإن لم تستطع فعلى جنب " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا [73] ، فإنما نفى استطاعة لا فعل معها .
[ ص: 49 ] وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع [74] الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه [75] ، فالشارع ييسر [76] على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليهم [77] في الدين من حرج .
والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان يسميه [ بعض ] الناس مستطيعا [78] .
فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر إلى لوازم ذلك ، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك [79] فإن كان ! . الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلف مع العجز ؟
ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة [ ص: 50 ] أخرى تقارن هذه [80] ، مثل جعل الفاعل مريدا ، فإن الفعل لا يتم [81] إلا بقدرة وإرادة .
والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة ، والله تعالى [82] يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو [83] أراده لعجز عنه [84] .
وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب . وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فإن الإنسان [85] يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد . وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة [86] لزم وجود الفعل ، ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له ، لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه ، فإنه العلة التامة للفعل ، والعلة التامة تقارن المعلول ، لا تتقدمه . ولأن القدرة شرط في وجود الفعل [ وكون الفاعل قادرا ] ، والشرط في وجود الشيء [ الذي به القادر يكون قادرا ] لا يكون [ الشيء ] مع عدمه بل مع وجوده [87] ، [ وإلا فيكون الفاعل [88] فاعلا حين لا يكون قادرا ، أو غير [89] القادر لا يكون قادرا ] [90] .
[ ص: 51 ] وهذا معنى قول أهل الإثبات ، الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر وغيرهما : لا خلاف بيننا وبين والقاضي أبي يعلى المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ، ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له . ( * ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا ، استحال كونه عالما قادرا مع [ عدم ] [91] كونه حيا وكذلك لما كان * ) [92] المصحح لكون المتلون متلونا [93] وكونه متحركا كونه جوهرا ، استحال كونه متلونا ومتحركا [94] وليس بجوهر .
وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا .
قالوا : وهذا من الأدلة المعتمدة . وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ، ولكن لا ينفى وجودها قبل الفعل [95] ، فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط [96] وبدون ذلك ، كما يصح وجود الحياة بدون العلم ، والجوهر بدون الحركة .
وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة [97] حدوث العالم ، فإنهم إذا قالوا : العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى .
قيل لهم : لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة ، وكون الفاعل قادرا [98] [ ص: 52 ] تام القدرة مريدا تام الإرادة ، فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم [99] على الإحداث ، فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث ؟ بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ، ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام ، فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها ، لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا .
وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته ، [100] كما قد بسط في موضعه .
وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة [101] ، وتقسيمها إلى نوعين ، يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب .
وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن [102] من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل ، يقول : كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق [103] . وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم ، بل يقولون : إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع ، حج أو لم يحج ، وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع ، كفر أو لم يكفر ، وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين ، فعلوا أو لم يفعلوا .
وما لا يطاق يفسر بشيئين : يفسر بما لا يطاق [104] للعجز عنه ; فهذا لم يكلفه [ ص: 53 ] الله أحدا . ويفسر بما لا يطاق [105] للاشتغال بضده ; فهذا هو الذي وقع فيه التكليف [106] كما في أمر العباد بعضهم بعضا ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ، ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ، ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة .
وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع ، وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع [107] .
وعلى هذا فقوله [108] : " لم يخلق فيه قدرة على الإيمان " [109] ليس [ هو ] [110] قول جمهور أهل السنة ، بل يقولون خلق له [111] القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي ، كما في العباد [112] إذا أمر بعضهم بعضا ، فما يوجد من [113] القدرة في ذلك الأمر ، فهو موجود في أمر الله لعباده ، بل تكليف الله أيسر ، ورفعه [114] للحرج أعظم . والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ، ولا يقولون : إنه تكليف ما لا يطاق . ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم ، وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله [115] .