الوجه العاشر : أن يقال هذا السؤال وارد على ( هذا ) المصنف [1] وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري [2] حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور ، وذلك أن الله خلق الداعي في العبد . وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر [3] وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون : ، وذلك مستلزم لخلقه إن الله خلق قدرة العبد وإرادته [4] فعل العبد ، ويقولون : إن العبد فاعل لفعله حقيقة ( ومحدث لفعله ) [5] ، والله سبحانه جعله فاعلا له [6] محدثا له ، وهذا قول جماهير [ ص: 75 ] أهل السنة من جميع الطوائف ، وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وغيرهما والجويني الملقب بإمام الحرمين [7] .
وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة ، وهو قول [8] جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي القدرية الذين يقولون : إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة ، وبين الخلاف بين الجهمية المجبرة الذين يقولون : إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه ، وأن العبد ليس فاعلا لفعله ، كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه [9] ، وإن أثبت أحدهم [10] كسبا لا يعقل ، كما أثبته ومن وافقه . وإذا كان الأشعري [11] هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم [12] بذلك دون الكافرين ، وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون : إن العباد لا يفعلون [13] شيئا ولا قدرة لهم على شيء ، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل ، مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة .
وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا [ ص: 76 ] ولا بهذا . فتبين أن قول أهل السنة القائلين بخلافة [14] الثلاثة هو الصواب ، وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم [15] .
وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي [16] ، ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة ، أي الحقيقة الكونية . وهؤلاء كثيرون في الناس ، وفيهم [17] من يدعي أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في [ توحيد ] [18] الربوبية ، ويقول [19] إن العارف إذا فني [20] في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ، ويقول بعضهم [21] : من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ، ويقول بعضهم : الخضر [22] إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة ، وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك [23] [ والصوفية ] [24] والفقراء ، بل وفي [25] الفقهاء والأمراء والعامة .
ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي [ ص: 77 ] وينكرون القدر ، وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة ، فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وفعل الواجبات وترك المحرمات ، ولم يقل : إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء [ المعاصي ] هو قد قصد [26] تعظيم الأمر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه ، لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته [27] العامة وخلقه الشامل ، وبين عدله وحكمته ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده [28] ، فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك .
والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده [29] ، شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف . فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ، ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا . وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل ، وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ، ولا يقابل باطلا بباطل ، والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة ، وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل [30] الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء .
وقد كان في أواخر عصر الصحابة [ رضي الله عنهم أجمعين ] [31] جماعة من هؤلاء القدرية ، وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة [ ص: 78 ] من طوائف المسلمين معروفة ، وإنما كثروا في المتأخرين ، وسموا هذا حقيقة ، وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ، . ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله ، وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب
فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب ، كما قال تعالى : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك [ سورة غافر : 55 ] ، فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب .