الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه السادس : أن يقال : قوله : لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز [1] لأجل التصديق ، يجيب عنه من يقول : إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه [2] قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها ، فيفعل [3] المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته [4] ، وهو قد أراد خلقها وأراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها ، كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها [5] وأراد أن تكون [ ص: 96 ] مستلزمة لمدلولها الذي هو صدق الرسول ، دالة على ذلك لمن نظر فيها [6] ، وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق ، وإن لم يجعل أحد المرادين [7] لأجل الآخر ، إذ المقصود يحصل بإرادتهما [8] جميعا .

                  فإن قيل : المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم [9] بأن فاعله أراد به التصديق .

                  قيل : هذا موضع النزاع . ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة ، بل هذا القول مرجوح [10] عندنا ، وإنما المقصود [11] أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر ، وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة .

                  وأما قوله : " إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب " ، هذه حجة ثانية [12] ، وجواب ذلك أن يقال : ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ، ومن قال إنه خالق أفعال العباد ، يقول : إن ذلك الفعل قبيح [13] منهم لا منه كما أنه ضار لهم [14] لا له .

                  ثم منهم من يقول : إنه فاعل ذلك الفعل ، والأكثرون يقولون : [ ص: 97 ] [ إن ] [15] ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد [16] ، وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد [17] حتى يقال : إنها قبيحة منهم ، فلو قدر [18] فعل ذلك لكان [19] قبيحا منه لا من العبد ، والرب منزه عن فعل القبيح .

                  فمن قال : إذا خلق الله ما هو ضار للعباد جاز أن يفعل ما هو ضار [20] كان قوله باطلا . كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد [ الذي ] [21] هو قبيح من العبد وليس [22] خلقه قبيحا منه ، لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه .

                  وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار [23] أنه صادق ، سواء كان ذلك بقول أو فعل [24] يجري مجرى القول ، وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص ، والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل [25] وباتفاق العقلاء .

                  ومن قال : إنه لا يتصور منه فعل قبيح ، بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله ، يقول : إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له ، فهو ممتنع عليه : كالعجز والجهل ونحو ذلك ، والكذب صفة نقص [ ص: 98 ] بالضرورة ، والصدق صفة كمال ، وتصديق [26] الكذاب [27] نوع من الكذب ، [ كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب ] [28] ، وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص .

                  وهذا المقام [29] له بسط مذكور في غير هذا الموضع [30] ، [ ونحن لا نقصد تصويب قول كل [31] من انتسب إلى السنة بل نبين الحق ، والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ ، ولم تنفرد الشيعة عنهم قط [32] بصواب ، بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون ، كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصارى لجميع المسلمين فهم فيه ضالون ، وإن كان كثير من المسلمين قد يخطئ . ومن وافق [33] جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب ، وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ، ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها ، فقوله فاسد [34] مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف . وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه ، لا سيما إذا قال من قال منهم : إن تنزيهه عن النقص لا يعلم [35] بالعقل بل بالسمع .

                  [ ص: 99 ] فإذا قيل لهم : لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه ؟ .

                  قالوا : لأنه نقص ، والنقص عليه محال .

                  فيقال لهم : إن تنزيهه عندكم عن النقص [36] لم يعلم إلا بالإجماع ، ومعلوم أن الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب ، فإن صح الاحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل .

                  وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى ، وهذا كما قاله بعضهم : إن الله لا يجوز [37] أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا .

                  وقال : خلافا للحشوية .

                  ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين ، وإنما النزاع : هل [38] يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه ، لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا . ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع ، فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث ، والعبث [39] على الله تعالى ممتنع ، وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء ، لا ينزهه عن فعل ، فهذا [40] وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير ، لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم ] [41] ، [ والله أعلم ] [42] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية