الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي [1] : قال الخصم : القادر يمتنع أن يرجح مقدوره [2] من غير مرجح ، ومع الترجيح [3] يجب الفعل فلا قدرة [ ص: 266 ] ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله [4] ؛ ولقوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ سورة الصافات : 96 ] .

                  قال : [5] والجواب عن الأول المعارضة بالله تعالى ، فإنه تعالى [6] قادر ، فإن افتقرت القدرة إلى المرجح ، وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله [7] موجبا لا مختارا ، فيلزم [8] الكفر . والجواب عن الثاني [9] : أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه ، ومثل [10] هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد [11] فنهب وظلم وقهر [12] فإن السلطان متمكن [13] من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه [14] ، وليس [15] يكون شريكا للسلطان . والجواب عن الثالث [16] أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها ، فأنكر عليهم وقال : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون [ سورة الصافات : 95 ، 96 ] .

                  [ ص: 267 ] فيقال : لم يذكر [17] إلا شيئا يسيرا ، ولم يذكر تقرير أدلتهم على وجهها ، ومع هذا فالأدلة الثلاثة التي ذكرها لهم [18] ليس عنها جواب صحيح .

                  أما الأول فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول [ إنه ] [19] إذا وجب الفعل فلا قدرة ، فإن أهل الإثبات يقولون : إن العبد له قدرة .

                  وهذا مذهب عامة [20] أهل السنة حتى غلاة المثبتين [21] للقدر كالأشعرية ، فإنهم متفقون على أن العبد له قدرة .

                  وهذا الدليل المذكور قد احتج به أبو عبد الله الرازي وغيره ، وهو يصرح بأنه يقول بالجبر ، ومع هذا فإنه يقول : إن [22] للعبد قدرة ، وإن كانوا متنازعين هل هي مؤثرة في مقدورها [23] ، أو في بعض صفاته ، أو لا تأثير لها .

                  [ قال أبو الحسين البصري وغيره من المعتزلة [24] : إن الفعل لا يكفي فيه مجرد القدرة ، بل يتوقف على الداعي ، فيقولون : إن القادر المختار لا [ ص: 268 ] يرجح بمجرد القدرة ، بل بداع يقرن مع القدرة ، كما يقول ذلك أكثر المثبتين للقدر ، فإنهم يقولون : إن الرب تعالى لا يرجح بمجرد القدرة ، بل بإرادة مع القدرة .

                  وكذلك يقول كثير منهم في حق العبد : لا يرجح بمجرد القدرة ، ( 1 بل بداع مع القدرة . 1 ) [25] وقد قال هذا كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ، وقاله من أصحاب أحمد القاضي أبو خازم [26] بن القاضي أبي يعلى ] [27] .

                  وقد تقدم أن القول الوسط في ذلك أن لها تأثيرا من جنس تأثير [28] الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع ولا وجودها كعدمها .

                  وتوجيه هذا الدليل [29] أن القادر يمتنع أن يرجح أحد مقدوريه [30] إلا بمرجح [ وذلك أنه [31] إذا كان الفعل والترك نسبتهما إلى القادر سواء كان ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح ، وهذا ممتنع في بدائه [32] العقول .

                  وهذا مبسوط في موضع آخر ، وتبين فيه [33] خطأ من زعم أن القادر [ ص: 269 ] يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح ] [34] وذلك المرجح لا يكون من العبد ؛ لأن القول فيه كالقول في فعل العبد ، فإن كان المرجح له قدرة العبد ، فالقادر لا يرجح إلا بمرجح ، فلا بد أن يكون المرجح [ من الله ، وعند وجود المرجح ] [35] يجب وجود الفعل [36] وإلا لم يكن مرجحا تاما ، فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يجوز [37] وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح كان ممكنا ، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ، فلا بد من مرجح تام يجب عنده وجود الفعل .

                  وإذا كان العبد لا يحصل فعله إلا بمرجح من الله تعالى ، وعند وجود ذلك المرجح يجب وجود [38] الفعل - كان فعله كسائر الحوادث التي تحدث بأسباب يخلقها الله تعالى يجب وجود الحادث عندها .

                  وهذا معنى كون الرب [ تبارك وتعالى ] خالقا [39] لفعل العبد ، ومعنى ذلك أن الله تعالى يخلق في العبد القدرة التامة والإرادة الجازمة ، وعند وجودهما [40] يجب وجود الفعل ؛ لأن [41] هذا سبب تام للفعل ، فإذا وجد السبب التام وجب وجود المسبب .

                  [ ص: 270 ] والله هو الخالق للمسبب [42] أيضا ، كما أنه إذا خلق النار في الثوب فإنه لا بد [43] من وجود الحريق عقيب [44] ذلك ، والكل مخلوق لله تعالى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية