فصل ] [1] .
وأما قوله : أي شركة هنا ؟ [2] .
فيقال : [3] بغير فعل الله ولا قدرته [4] فهذه [ ص: 277 ] مشاركة لله إذا كانت الحوادث حادثة [5] صريحة [ ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير ، فيجعلون لله شريكا آخر ] [6] وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة ، فإن [ نواب ] [7] السلطان شركاء له [ في ملكه ] [8] ، وهو محتاج إليهم ، ليس هو خالقهم ولا ربهم ، [ بل ولا خالق قدرتهم ] [9] بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ، ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك .
[10] صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام ؛ لأنه فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا [11] شرك في الربوبية لا في الألوهية ، فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها [12] مملوكة لله ، فيقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا [13] هو لك تملكه وما ملك .
وهؤلاء يجعلون ما يملكه [14] العبد من أفعاله ملكا لله [15] [ ص: 278 ] ولهذا قال [ رضي الله عنهما ] : ابن عباس [16] الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن [17] وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده [18] .
وقول القدرية يتضمن [19] الإشراك والتعطيل ، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله .
وهاتان شعبتان من شعب [20] الكفر ، فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك [21] ، وبيان ذلك أنهم يقولون : إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك ، فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ، ( 7 ثم صار مريدا للفعل فاعلا له 7 ) [22] .
وهذا الأمر [23] حادث بعد أن لم يكن ، وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد ، وهذا ، فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد ، وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح ، وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص - كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات [ ص: 279 ] أن يكون أصل التعطيل [24] لها فاعل ، والله فاعلها بلا شك ، فهو [25] تعطيل له [26] أن يكون خالقا لمخلوقاته .
وأما الشرك فلأنهم يقولون : العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له ، كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها ، وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض [27] مخلوقاته .
وهذان المحذوران - التعطيل والإشراك في الربوبية - لازمان [28] لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله ، كالفلاسفة الذين يقولون : إن الفلك يتحرك [29] حركة اختيارية ، بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ، ولا كان فوقه متجدد [30] يقتضي حركته ، وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره .
فيقال : مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته [31] أمر ممكن لا واجب بنفسه ، فلا بد [ له ] [32] من مرجح تام ، وما من وقت إلا وهو يتحرك فيه [ ص: 280 ] باختياره وقدرته ، فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك ، وإلا لزم حدوث الحوادث [33] بلا محدث .
فإن قيل : الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل [34] : سواء كان بواسطة أو بلا واسطة ، وهي [35] ما صدر عنه من العقل أو العقول [36] .
قيل : هذا باطل ؛ لأن الموجب بذاته على حال [37] واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد ، فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه ، وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن ، [38] فيمتنع أن يكون [ ذلك الحادث ] ثابتا [39] في الأزل ، فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل ، ( 8 فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل 8 ) [40] .
وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما [41] في الأزل لزمه المفعول ، ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء ، وإن لم يكن مرجحا تاما [42] في الأزل ، فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ، ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا ، فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك ، وتلك [43] الأمور لم تكن [ ص: 281 ] مرجحا تاما في الأزل ، وإلا لبطلت [44] الحوادث ، فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء [ مقارن له ] [45] فامتنع قدم الفلك .
وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه ؛ لوجوب إضافة الحوادث [46] إلى المرجح التام ، فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب .
وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث [47] أن يكون لها فاعل ، وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد [ أن يكون لها محدث ] [48] .
وأيضا فقد جعلوا الفلك [ يفعل ] [49] بطريق الاستقلال ، كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة [50] مقارنة للحركة ؛ لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى ، فشرط الثانية انقضاء الأولى ، كالذي يقطع [51] مسافة شيئا بعد شيء ، ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية ، فالفاعل تجدد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية ، فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من [ ص: 282 ] الإرادة والقدرة ما يتحرك به ، [52] لكن المجدد له [ ذلك ] [53] لا بد أن يكون غيره ؛ لأنه ممكن لا واجب ، فالحوادث [54] فيه لا يجوز أن تكون منه ؛ لأنه إن أحدث [55] الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني ، وإن كان حصل له كمال التأثير [ في ] [56] الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل ، وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم [57] فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك ، وهذا بخلاف الواجب بنفسه ، فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره .