الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل ] [1] .

                  وأما قوله : أي شركة هنا ؟ [2] .

                  فيقال : إذا كانت الحوادث حادثة [3] بغير فعل الله ولا قدرته [4] فهذه [ ص: 277 ] مشاركة لله [5] صريحة [ ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير ، فيجعلون لله شريكا آخر ] [6] وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة ، فإن [ نواب ] [7] السلطان شركاء له [ في ملكه ] [8] ، وهو محتاج إليهم ، ليس هو خالقهم ولا ربهم ، [ بل ولا خالق قدرتهم ] [9] بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ، ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك .

                  فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا [10] صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام ؛ لأنه [11] شرك في الربوبية لا في الألوهية ، فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها [12] مملوكة لله ، فيقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا [13] هو لك تملكه وما ملك .

                  وهؤلاء يجعلون ما يملكه [14] العبد من أفعاله ملكا لله [15] [ ص: 278 ] ولهذا قال ابن عباس [ رضي الله عنهما ] : [16] الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن [17] وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده [18] .

                  وقول القدرية يتضمن [19] الإشراك والتعطيل ، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله .

                  وهاتان شعبتان من شعب [20] الكفر ، فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك [21] ، وبيان ذلك أنهم يقولون : إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك ، فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ، ( 7 ثم صار مريدا للفعل فاعلا له 7 ) [22] .

                  وهذا الأمر [23] حادث بعد أن لم يكن ، وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد ، وهذا أصل التعطيل ، فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد ، وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح ، وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص - كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات [ ص: 279 ] أن يكون [24] لها فاعل ، والله فاعلها بلا شك ، فهو [25] تعطيل له [26] أن يكون خالقا لمخلوقاته .

                  وأما الشرك فلأنهم يقولون : العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له ، كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها ، وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض [27] مخلوقاته .

                  وهذان المحذوران - التعطيل والإشراك في الربوبية - لازمان [28] لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله ، كالفلاسفة الذين يقولون : إن الفلك يتحرك [29] حركة اختيارية ، بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ، ولا كان فوقه متجدد [30] يقتضي حركته ، وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره .

                  فيقال : مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته [31] أمر ممكن لا واجب بنفسه ، فلا بد [ له ] [32] من مرجح تام ، وما من وقت إلا وهو يتحرك فيه [ ص: 280 ] باختياره وقدرته ، فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك ، وإلا لزم حدوث الحوادث [33] بلا محدث .

                  فإن قيل : الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل [34] : سواء كان بواسطة أو بلا واسطة ، وهي [35] ما صدر عنه من العقل أو العقول [36] .

                  قيل : هذا باطل ؛ لأن الموجب بذاته على حال [37] واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد ، فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه ، وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن ، [38] فيمتنع أن يكون [ ذلك الحادث ] ثابتا [39] في الأزل ، فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل ، ( 8 فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل 8 ) [40] .

                  وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما [41] في الأزل لزمه المفعول ، ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء ، وإن لم يكن مرجحا تاما [42] في الأزل ، فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ، ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا ، فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك ، وتلك [43] الأمور لم تكن [ ص: 281 ] مرجحا تاما في الأزل ، وإلا لبطلت [44] الحوادث ، فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء [ مقارن له ] [45] فامتنع قدم الفلك .

                  وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه ؛ لوجوب إضافة الحوادث [46] إلى المرجح التام ، فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب .

                  وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث [47] أن يكون لها فاعل ، وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد [ أن يكون لها محدث ] [48] .

                  وأيضا فقد جعلوا الفلك [ يفعل ] [49] بطريق الاستقلال ، كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة [50] مقارنة للحركة ؛ لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى ، فشرط الثانية انقضاء الأولى ، كالذي يقطع [51] مسافة شيئا بعد شيء ، ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية ، فالفاعل تجدد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية ، فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من [ ص: 282 ] الإرادة والقدرة ما يتحرك به ، [52] لكن المجدد له [ ذلك ] [53] لا بد أن يكون غيره ؛ لأنه ممكن لا واجب ، فالحوادث [54] فيه لا يجوز أن تكون منه ؛ لأنه إن أحدث [55] الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني ، وإن كان حصل له كمال التأثير [ في ] [56] الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل ، وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم [57] فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك ، وهذا بخلاف الواجب بنفسه ، فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية