الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الثالث أن يقال : إن [1] الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل : هل يطاع فيما يأمر به  [2] من طاعة الله ، وينفذ حكمه وقسمه إذا وافق العدل ؟ أو لا يطاع في شيء ، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه ؟ أو يفرق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع ؟ على ثلاثة أقوال : أضعفها عند أهل السنة : هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه ، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول وهو : أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا ، حتى أن القاضي الجاهل والظالم ينفذ حكمه بالعدل [3] وقسمه [4] بالعدل على هذا القول ، كما هو قول أكثر الفقهاء .

                  والقول الثالث : هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره [5] ; لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة ، بخلاف الحاكم ونحوه ، فإنه [ ص: 391 ] يمكن عزله بدون ذلك وهو فرق ضعيف ، فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة ، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه ، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين [6] لدفع أدناهما ، وكذلك الإمام الأعظم .

                  ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف  وإن كان فيهم [7] ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال [8] ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما [9] ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان ، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو [10] أعظم من الفساد الذي أزالته .

                  والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء [11] بل قال : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) [ سورة الحجرات : 9 ] فلم يأمر بقتال الباغية [12] ، ابتداء ، فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر [13] ابتداء ؟ .

                  [ ص: 392 ] وفي صحيح مسلم عن أم سلمة - رضي الله عنها - [14] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا نقاتلهم قال : لا ما صلوا " . [15] فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة ، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم .

                  وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - [16] قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : " تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم " [17] .

                  فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ، ومع هذا فأمرنا أن [18] نؤتيهم الحق الذي لهم ، ونسأل الله الحق الذي لنا ، ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم .

                  وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - [19] عن النبي - صلى [ ص: 393 ] الله عليه وسلم - قال : " من رأى من أميره شيئا يكرهه [20] فليصبر عليه ، فإنه [21] من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات [22] ميتة جاهلية " . [23] وفي لفظ : " فإنه من خرج [24] من السلطان شبرا فمات مات ميتة [25] جاهلية " . واللفظ للبخاري [26] وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - [27] [ لما ذكر ] [28] أنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته . قال حذيفة : كيف أصنع [29] يا رسول الله ، إن أدركت ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " . [30] فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير .

                  [ ص: 394 ] وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - [31] " من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يدا عن طاعة " . [32] وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى   .

                  وتقدم حديث عبادة : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال [33] : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " وفي رواية : وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيث ما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم [34] " . فهذا [ ص: 395 ] أمر [35] بالطاعة مع استئثار ولي الأمر ، وذلك ظلم منه ، ونهي عن منازعة الأمر أهله ، وذلك نهي عن الخروج عليه ; لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم ، وهم الذين لهم سلطان يأمرون به ، وليس [36] المراد من يستحق أن يولى [37] ولا سلطان له ، ولا المتولي العادل [38] ; لأنه [39] قد ذكر أنهم يستأثرون ، فدل على أنه نهي [40] عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا ، وهذا باب واسع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية