الوجه الثالث أن يقال : إن [1] الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل : هل يطاع فيما يأمر به [2] من طاعة الله ، وينفذ حكمه وقسمه إذا وافق العدل ؟ أو لا يطاع في شيء ، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه ؟ أو يفرق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع ؟ على ثلاثة أقوال : أضعفها عند أهل السنة : هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه ، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول وهو : أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا ، حتى أن القاضي الجاهل والظالم ينفذ حكمه بالعدل [3] وقسمه [4] بالعدل على هذا القول ، كما هو قول أكثر الفقهاء .
والقول الثالث : هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره [5] ; لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة ، بخلاف الحاكم ونحوه ، فإنه [ ص: 391 ] يمكن عزله بدون ذلك وهو فرق ضعيف ، فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة ، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه ، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين [6] لدفع أدناهما ، وكذلك الإمام الأعظم .
ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون وإن كان فيهم الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف [7] ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال [8] ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما [9] ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان ، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو [10] أعظم من الفساد الذي أزالته .
والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء [11] بل قال : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) [ سورة الحجرات : 9 ] فلم يأمر بقتال الباغية [12] ، ابتداء ، فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر [13] ابتداء ؟ .
[ ص: 392 ] وفي صحيح عن مسلم - رضي الله عنها - أم سلمة [14] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " . سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا نقاتلهم قال : لا ما صلوا [15] فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة ، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم .
وفي الصحيحين عن - رضي الله عنه - ابن مسعود [16] قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : " تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم [17] .
فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ، ومع هذا فأمرنا أن [18] نؤتيهم الحق الذي لهم ، ونسأل الله الحق الذي لنا ، ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم .
وفي الصحيحين عن - رضي الله عنهما - ابن عباس [19] عن النبي - صلى [ ص: 393 ] الله عليه وسلم - قال : " [20] فليصبر عليه ، فإنه [21] من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات [22] ميتة جاهلية " . من رأى من أميره شيئا يكرهه [23] وفي لفظ : " [24] من السلطان شبرا فمات مات ميتة [25] جاهلية " . واللفظ فإنه من خرج للبخاري [26] وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - [27] [ لما ذكر ] [28] أنهم : كيف أصنع حذيفة [29] يا رسول الله ، إن أدركت ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " . لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته . قال [30] فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير .
[ ص: 394 ] وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - [31] " " . من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يدا عن طاعة [32] وهذا . نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى
وتقدم حديث عبادة : ، قال بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله [33] : " وفي رواية : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيث ما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم [34] " . فهذا [ ص: 395 ] أمر [35] بالطاعة مع استئثار ولي الأمر ، وذلك ظلم منه ، ونهي عن منازعة الأمر أهله ، وذلك نهي عن الخروج عليه ; لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم ، وهم الذين لهم سلطان يأمرون به ، وليس [36] المراد من يستحق أن يولى [37] ولا سلطان له ، ولا المتولي العادل [38] ; لأنه [39] قد ذكر أنهم يستأثرون ، فدل على أنه نهي [40] عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا ، وهذا باب واسع .