الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 58 ] ( فصل ) [1] .

                  قال الرافضي : [2] " وكان ولده علي الرضا [3] أزهد أهل زمانه و [ كان ] أعلمهم [4] وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا [5] ، وولاه المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل [6] . ووعظ يوما أخاه زيدا [7] ، فقال : يا زيد [8] ، ما أنت قائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سفكت الدماء ، وأخذت الأموال من غير حلها ، وأخفت السبل [9] ، وغرك حمقى [10] أهل الكوفة ؟ وقد قال [11] رسول الله [ ص: 59 ] صلى الله عليه وسلم - : إن فاطمة أحصنت ( * فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار * ) [12] . [13] [ وفي رواية : إن عليا قال : يا رسول الله ، لم سميت فاطمة ؟ قال : لأن الله فطمها وذريتها من النار ، فلا يكون الإحصان سببا لتحريم ذريتها على النار وأنت تظلم . ] [14] والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله [15] ، فإن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوه بطاعته ، إنك [16] إذا لأكرم على الله منهم .

                  وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير ، وكتب إلى أهل الآفاق [17] ببيعته [18] وطرح السواد ولبس الخضرة " .

                  قال : [19] " وقيل لأبي نواس : لم لا تمدح الرضا [20] ؟ فقال :

                  قيل لي أنت أفضل الناس طرا في المعاني وفي الكلام البديه [     لك من جوهر الكلام بديع
                  يثمر الدر في يدي مجتنيه [21] ]     فلماذا تركت مدح ابن موسى
                  والخصال التي تجمعن فيه     قلت : لا أستطيع مدح إمام
                  كان جبريل خادما لأبيه

                  " [22] .

                  [ ص: 60 ] فيقال : من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم ، وتعظيمهم [ ومدحهم ] [23] لهم ، فإنهم يمدحونهم بما ليس بمدح ، ويدعون لهم دعاوى لا حجة لها ، ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة [24] ، لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه بالمدح ، فإن علي بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة ، والممادح المناسبة لحاله [25] اللائقة به ، ما يعرفه بها أهل المعرفة . وأما [26] هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة .

                  وأما قوله : " إنه [27] كان أزهد الناس وأعلمهم " فدعوى مجردة بلا دليل ، فكل من غلا في شخص أمكنه أن يدعي له هذه الدعوى ، كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه ، ومن هو أزهد منه [28] ، كالشافعي وإسحاق بن راهويه [29] وأحمد بن حنبل ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي سليمان الداراني ، ومعروف الكرخي ، وأمثال هؤلاء . هذا ولم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئا ، ولا روي له حديث في الكتب الستة [30] ، وإنما يروي له : أبو الصلت الهروي وأمثاله نسخا عن آبائه فيها من الأكاذيب [ ص: 61 ] ما قد [31] نزه الله عنه الصادقين من غير أهل البيت فكيف بالصادقين [32] منهم [33] ؟ ! .

                  وأما قوله : " إنه أخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا [34] " فهذا من أظهر الكذب . هؤلاء فقهاء الجمهور المشهورون لم يأخذوا عنه ما هو معروف ، وإن أخذ عنه بعض من لا يعرف من فقهاء الجمهور فهذا لا ينكر ، فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون عن المتوسطين في العلم ، ومن هم دون المتوسطين .

                  [ وما يذكره بعض الناس من أن معروفا الكرخي كان خادما له ، وأنه [ ص: 62 ] أسلم على يديه ، أو أن الخرقة متصلة منه إليه ، فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن ] [35] .

                  والحديث الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث [36] ، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث [ أيضا ] [37] ، فإن قوله : " إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها [38] على النار " يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها [ على النار ] [39] وهذا [40] باطل قطعا ، فإن سارة أحصنت فرجها ، ولم يحرم الله جميع [41] ذريتها على النار .

                  قال تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) [ سورة الصافات : 122 ، 113 ] .

                  [ ص: 63 ] وقال تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) [ سورة الحديد : 26 ] .

                  ومن المعلوم [42] أن بني إسرائيل من ذرية سارة [43] والكفار فيهم لا يحصيهم إلا الله . وأيضا فصفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحصنت فرجها ومن ذريتها [44] محسن وظالم .

                  وفي الجملة فاللواتي [45] أحصن فروجهن لا يحصي عددهن إلا الله عز وجل ، ومن ذريتهن البر والفاجر ، والمؤمن والكافر .

                  وأيضا ففضيلة فاطمة ومزيتها ليست بمجرد إحصان فرجها [46] ، فإن هذا يشارك فيه فاطمة جمهور [47] نساء المؤمنين . وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف ، بل بما هو أخص منه ، بل هذا من جنس حجج الرافضة ، فإنهم لجهلهم لا يحسنون أن يحتجوا [48] ، ولا يحسنون أن يكذبوا [49] كذبا ينفق [50] .

                  وأيضا فليست ذرية فاطمة كلهم محرمين على النار ، بل فيهم البر [ ص: 64 ] والفاجر . والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسوق [51] وهم أهل السنة منهم المتولون [52] لأبي بكر وعمر ، كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذرية فاطمة [ - رضي الله عنها - ] [53] ، فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه ، وشهدوا عليهم [54] بالكفر والفسق ، بل الرافضة أشد الناس عداوة إما بالجهل وإما بالعناد لأولاد فاطمة - رضي الله عنها - .

                  ثم موعظة علي بن موسى لأخيه المذكور تدل على أن ذرية فاطمة فيهم مطيع وعاص [55] وأنهم إنما بلغوا كرامة الله بطاعته ، وهذا قدر مشترك بين جميع الخلق ، فمن أطاع الله أكرمه الله ، ومن عصى الله كان مستحقا لإهانة الله ، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة .

                  وأما ما ذكره من تولية المأمون له الخلافة ، فهذا صحيح . لكن [ ذلك ] لم يتم ، [ بل ] استمر ذلك إلى أن مات [56] علي بن موسى ، ولم يجعله ولي عهده [57] . وهم يزعمون أنه قتله بالسم ، فإن كان فعل المأمون الأول [ ص: 65 ] حجة ، كان فعله الثاني حجة ، وإن لم يكن حجة لم يصلح أن يذكر مثل هذا في مناقب علي بن موسى الرضا ، ولكن القوم جهال بحقيقة المناقب والمثالب ، والطرق التي يعلم بها ذلك [58] .

                  ولهذا يستشهدون بأبيات أبي نواس ، وهي لو كانت صدقا لم تصلح أن تثبت فصائل شخص بشهادة شاعر معروف بالكذب والفجور الزائد الذي لا يخفى على من له أدنى خبرة بأيام الناس ، فكيف والكلام الذي ذكره فاسد ؟ ! فإنه قال : - قلت لا أستطيع مدح إمام كان جبريل خادما لأبيه

                  ومن المعلوم أن هذا وصف مشترك بين ( * جميع من كان من ذرية الرسل ، وجميع ذرية علي يشاركونه في هذا ، فأي مزية [59] له في هذا حتى يكون بها إماما دون أمثاله المشاركين له في هذا الوصف ؟ ! ثم هذا يقتضي أنه لا يمدح أحدا * ) [60] من ذرية علي أصلا ، لأن هذا الوصف مشترك [ بينهم ، ثم كون الرجل [61] من ذرية الأنبياء قدر مشترك ] [62] بين الناس [ فإن الناس ] [63] [ ص: 66 ] كلهم من ذرية نوح [ عليه السلام ] [64] ، ومن ذرية آدم ، وبنو إسرائيل : يهوديهم وغير يهوديهم من ذرية إبراهيم وإسحاق ويعقوب .

                  وأيضا فتسمية جبريل رسول الله [ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ] [65] خادما له [66] عبارة من لا يعرف قدر الملائكة ، وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء . ولكن الرافضة غالب حججهم أشعار تليق بجهلهم وظلمهم ، وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم ، وما يثبت أصول [67] الدين بمثل هذه [68] الأشعار ، إلا من ليس معدودا من أولي [69] الأبصار .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية