قال الرافضي [2] : " وكان ولده علي الهادي [3] ، ويقال له : العسكري ، لأن أشخصه من المتوكل المدينة إلى بغداد ، ثم منها إلى سر من رأى ، فأقام بموضع عندها [4] يقال له : العسكر ، ثم انتقل إلى سر من رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، وإنما [ ص: 76 ] أشخصه ، لأنه كان يبغض المتوكل - رضي الله عنه - عليا [5] ، فبلغه مقام علي بالمدينة [6] ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره [7] ، فضج أهل المدينة لذلك خوفا عليه ، لأنه كان [8] محسنا إليهم ، ملازما للعبادة [9] في المسجد ، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه [10] ، ثم فتش منزله فلم يجد فيه سوى [11] مصاحف وأدعية [12] وكتب العلم ، فعظم في عينه ، وتولى خدمته بنفسه ، فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق [13] بن إبراهيم [ الطائي ] [14] والي بغداد . فقال له : يا يحيى هذا الرجل قد ولده [15] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والمتوكل من تعلم ، فإن حرضته [16] عليه قتله ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 77 ] خصمك يوم القيامة ، فقال له يحيى : والله ما وقعت [17] منه إلا على خير ، قال : فلما دخلت على أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده ، فأكرمه المتوكل ، ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفي تصدق بدراهم كثيرة ، فسأل الفقهاء [ عن ذلك ] المتوكل [18] فلم يجد عندهم جوابا ، فبعث إلى علي الهادي [19] ، فسأله [20] فقال : تصدق بثلاثة وثمانين درهما ، فسأله عن السبب ، فقال : لقوله تعالى : ( المتوكل لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) [ سورة التوبة : 25 ] ، وكانت المواطن هذه الجملة [21] ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا سبعا وعشرين غزاة [22] وبعث ستا وخمسين سرية . قال المسعودي [23] : نمي [24] إلى المتوكل بعلي بن محمد [25] أن في منزله سلاحا من شيعته من أهل قم ، وأنه عازم على الملك [26] ، فبعث إليه جماعة من [ ص: 78 ] الأتراك ، فهجموا داره [27] ليلا فلم يجدوا فيها شيئا ، ووجدوه في بيت مغلق عليه [28] وهو يقرأ [29] وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى متوجها إلى الله تعالى يتلو [30] القرآن ، فحمل على حالته تلك إلى المتوكل ، فأدخل عليه [31] وهو في مجلس الشراب ، والكأس في يد ، فعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس ، فقال : والله المتوكل [32] ما خامر لحمي ودمي قط [33] فأعفني ، فأعفاه [34] وقال له : أسمعني صوتا ، فقال [35] : ( كم تركوا من جنات وعيون ) الآيات [ سورة الدخان : 25 ] فقال : أنشدني شعرا ، فقال : إني قليل الرواية للشعر ، فقال : لا بد من ذلك ، فأنشده : باتوا على قلل الأجبال [36] تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم [37] القلل [ ص: 79 ]
واستنزلوا بعد عز من [38] معاقلهم وأسكنوا [39] حفرا يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ [40] من بعد دفنهم
أين الأسرة [41] والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة
من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
[42] تلك الوجوه عليها الدود يقتتل [43] قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا [44] فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
فبكى حتى بلت دموعه لحيته " . المتوكل
فيقال : هذا الكلام من جنس ما قبله ، لم يذكر منقبة بحجة صحيحة ، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل [45] ، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي ، وهذا من جهله [46] ، فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعي معروف هو وأهل بيته ، كانوا من خزاعة ، فإنه [47] إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب ، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان المشهور المعلومة [48] سيرته ، وابن هذا محمد بن عبد الله بن طاهر كان نائبا على بغداد في خلافة [ ص: 80 ] المتوكل وغيره ، وهو الذي صلى على لما مات ، أحمد بن حنبل وإسحاق [ بن إبراهيم ] [49] هذا كان نائبا لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام ، وهؤلاء كلهم من المتوكل خزاعة ليسوا من طيئ ، وهم [ أهل ] [50] بيت مشهورون [51] .
وأما الفتيا التي ذكرها من أن نذر إن عوفي يتصدق المتوكل [52] بدراهم كثيرة ، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا ، وأن علي بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهما ، لقوله تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) ،
[ سورة التوبة : 25 ] ، وأن المواطن كانت [ هذه الجملة ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا ] [53] سبعا وعشرين غزاة [54] ، و [ بعث ] ستا [55] وخمسين سرية ، فهذه الحكاية أيضا تحكى عن [ ص: 81 ] علي بن موسى مع ، وهي دائرة بين أمرين : إما أن تكون كذبا ، وإما أن تكون جهلا ممن أفتى بذلك . المأمون
فإن قول القائل : له علي دراهم كثيرة ، أو والله لأعطين فلانا دراهم كثيرة ، أو لأتصدقن بدراهم كثيرة ، لا يحمل على ثلاث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين .