لا سيما قول من يقول : إن ، كما يقوله العالم صدر عن ذات بسيطة لا يقوم بها صفة ولا فعل ، وأمثاله ، فإن هؤلاء يقولون بصدور الأمور المختلفة عن ذات بسيطة ، وإن العلة البسيطة التامة الأزلية توجب معلولات مختلفة ، وهذا من أعظم الأقوال امتناعا في صريح المعقول . ابن سينا
ومهما أثبتوه من الوسائط كالعقول وغيرها ، فإنه لا يخلصهم من هذا القول الباطل .
فإن تلك الوسائط - [ كالعقول ] - [1] صدرت عن غيرها ، وصدر عنها غيرها .
فإن كانت بسيطة من كل وجه ، فقد صدر المختلف الحادث [2] عن البسيط الأزلي ، وإن كان فيها [3] اختلاف ، أو قام بها حادث ، فقد صدرت أيضا [4] المختلفات والحوادث عن البسيط التام [ الأزلي ] [5] ، [ ص: 183 ] وكلاهما باطل ، فهم مع القول [6] بأن مبدع العالم علة له أبعد الناس عن مراعاة موجب التعليل .
وهؤلاء يقولون . [ أيضا ] [7] : إنه علة تامة أزلية لبعض العالم كالأفلاك مثلا . وليس علة تامة في الأزل لشيء من الحوادث ، بل لا يصير علة تامة لشيء من الحوادث إلا عند حدوثه ، فيصير علة بعد أن لم يكن علة [8] مع أن حاله قبل [ ومع ] [9] ، وبعد حال . [10] واحدة ، فاختصاص كل وقت بحوادثه ، وبكونه صار علة تامة فيه لتلك الحوادث لا بد له من مخصص ، ولا مخصص إلا الذات البسيطة ، وحالها في نفسها . [ واحد أزلا وأبدا ، فكيف يتصور أن يخص بعض الأوقات بحوادث مخصوصة دون بعض مع تماثل أحوالها في نفسها ؟ ] [11] .
وهذا بعينه تخصيص [12] لكل حال من الأحوال الحادثة [13] المتماثلة [14] عن سائر أمثاله بذلك الإحداث ، وبتلك المحدثات من غير مخصص يختص به ذلك المثل ، فقد وقع هؤلاء في أضعاف ما فروا منه وأضعاف أضعافه إلى ما لا يتناهى .
[ ص: 184 ] . . . وإذا قيل : حدوث الحادث الأول أعد الذات لحدوث الثاني
قيل لهم : فالذات نفسها هي علة الجميع ، ونسبتها إلى الجميع نسبة واحدة ، فما الموجب لكونها جعلت ذلك يعدها لهذا دون العكس مع أنه لم يقم بها شيء يوجب التخصيص . ؟ .
وأيضا : فكيف تصير هي فاعلة [15] لهذا الحادث بعد أن لم تكن فاعلة له [16] من غير أمر يقوم بها ؟ .
وأيضا : فكيف يكون معلولها يجعلها فاعلة بعد أن لم تكن فاعلة بدون فعل يقوم بها ؟ .
وإذا قالوا : أفعالها تختلف ، وتحدث لاختلاف القوابل والشرائط وحدوث ذلك الاستعداد ، [ و ] سبب [17] ذلك الحدوث هو الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية .
قيل لهم : هذا إن كان ممكنا ، فإنما يمكن فيما يكون فيه فاعل الإعداد غير فاعل الإمداد كالشمس التي يفيض نورها وحرارتها على العالم ، ويختلف فعلها ، ويتأخر كمال تأثيرها عن شروقها لاختلاف القوابل وحدوثها ، والقوابل ليست من فعل الشمس .
وكذلك ما يدعونه من ، وليست حركات كل الأفلاك عن العقل الفياض . العقل الفعال الذي يختلف فيضه في هذا العالم باختلاف قوابله ، فإن القوابل اختلفت باختلاف حركات الأفلاك
[ ص: 185 ] فأما الذات : التي منها الإعداد ، ومنها الإمداد ، ومنها الفيض ، ومنها القبول ، وهي الفاعلة للقابل والمقبول والشرط والمشروط ، فلا يتصور أن يقال : إنما اختلف فعلها أو فيضها أو إيجابها ، [ وتأخر ] [18] لاختلاف القوابل والشروط ، أو لتأخر ذلك ، فإنه يقال : القول [19] في اختلاف القوابل والشروط وتأخرها كالقول في اختلاف [ المقبول ] [20] ، والمشروط وتأخر ذلك ، فليس هناك سبب وجودي يقتضي ذلك إلا مجرد الذات التي هي عندهم بسيطة ، وهي [ عندهم ] [21] علة تامة أزلية ، فهل هذا القول إلا من أفسد الأقوال في صريح المعقول ؟ .
وإن قالوا : السبب في ذلك أنه لم يكن إلا هذا ، وأن الممكنات لا تقبل إلا هذا .
قيل : ، ولكن بعد وجودها يعقل كون الممكن شرطا لغيره ومانعا لغيره كوجود الممكنات قبل وجودها ليس لها حقيقة موجودة تجعل هي السبب في تخصيص أحد الموجودين بالوجود دون الآخر [22] أحد الضدين فإنه مانع من الآخر [ دون غيره ] [23] ، ووجود اللازم ، فإنه شرط في وجود الملزوم أي لا بد من وجوده مع وجوده سواء وجدا معا ، أو سبق أحدهما الآخر .
[ ص: 186 ] . وإنما يقدر وجود شيء من الممكنات ، فكيف يعقل أن أحد الممكنين الجائزين اللذين لم يوجد واحد منهما هو الذي أوجب في الذات البسيطة أن يوجد هذا دون هذا ويجعل هذا قديما دون هذا مع أنها واحدة بسيطة نسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة .
وإذا قيل : ماهية الممكن أوجبت ذلك دون وجوده .
قيل : الجواب من وجهين :
أحدهما : أن ، والعلم تابع للمعلوم ، فإن لم يكن من الذات الفاعلة سبب ( * يقتضي تخصيص ماهية دون ماهية بالوجود ، بل كانت بسيطة لا اختصاص لها بشيء من الماهيات لم يعقل * ) الماهية المجردة عن الوجود إنما تعقل في العلم الذي يعبر عنه بالوجود الذهني دون الوجود الخارجي[24] اختصاص إحدى الماهيتين بالوجود دون الأخرى ، ومعلوم أن الفاعل إذا تصور ما يريد فعله قبل أن يفعله ، فلا بد من أن يكون فيما يراد . [25] فعله سبب يوجب تخصيصه بالإرادة ، والعبد لإرادته أسباب خارجة عنه [26] توجب التخصيص ، وأما الرب تعالى ، فلا يخرج عنه إلا ما هو منه ، وهو مفعوله ، فإن لم يكن في ذاته ما يوجب التخصيص امتنع التخصيص منه ، فامتنع الفعل .
الثاني : أن يقال : هب أن ماهية الممكن ثابتة في الخارج لكن القول في [27] تخصيص تلك الماهيات المقارنة لوجودها بالوجود دون [ ص: 187 ] بعض ، كالقول في تخصيص وجودها إذ [28] كان كل ما يقدر وجوده فماهيته مقارنة له .
وإن قيل : إن الماهيات أمر محقق في الخارج غني عن الفاعل ، فهذا تصريح بأنها واجبة بنفسها مشاركة للرب في إبداع [29] الوجود ، وهذا باطل ، وهذا يتوجه على القول بأن المعدوم ليس بشيء ، وهو الصواب ، [ و ] على قول [30] من قال : إنه شيء في الخارج أيضا .