ثم من النظار من قال بإحدى المقدمتين دون الأخرى ، فالقدرية وبعض الجهمية يقولون بالأولى ، وبعض الجبرية يقولون بالأولى في حق الرب دون العبد ، وأما الثانية فلم يقل بها إلا من جعل الفاعل مريدا ، أو جعل [1] بعض العالم قديما كأبي البركات ونحوه .
[ ص: 195 ] [ . وأما ، فلا يقولون : بأن الفاعل مريد ] القائلون بقدم شيء من العالم [2] ، وهؤلاء [3] قولهم أفسد من قول أبي البركات وأمثاله ، فإن كون [4] المفعول المعين لم يزل مقارنا لفاعله هو مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة ، فإذا قيل : مع ذلك إن الفاعل غير مريد كان زيادة ضلال ، ولم يكن هذا مما يقوي قولهم ، بل نفس كون الفاعل فاعلا لمفعوله المعين يمنع مقارنته له ، وما يذكرونه من حركة الخاتم مع اليد ، وحركة الشعاع مع الشمس [5] ، وأمثال ذلك ليس فيه أن المفعول قارن فاعله ، وإنما قارن شرطه ، وليس في العالم فاعل لم يزل مفعوله مقارنا له .
وأما سائر القائلين بقدم شيء من العالم ، فلا يقولون . بأن الفاعل مريد .
ثم كل من الطائفتين من أعظم الناس إنكارا لمقدمة القدرية ، وهو أن الفاعل المختار يرجح بلا مرجح حادث ، ومتى جوزوا ذلك بطل قولهم بقدم شيء من العالم ، فإن أصل قولهم إنما هو أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن لامتناع حدوث الحوادث بلا سبب ، فيمتنع أن يكون معطلا . ثم يصير فاعلا . بل إذا قدر أنه كان معطلا لزم دوام تعطيله ، [ ص: 196 ] ( 1 فإذا قدر أنه فاعل لزم دوام فعله ، وعندهم يمتنع ما قاله أولئك المتكلمون من جواز تعطيله 1 ) [6] ، ثم فعله ، ( 2 فمتى جوزوا أن يكون معطلا لم يفعل لم يمكنهم نفي 2 ) [7] ما قاله أولئك ، ولا القول بقدم شيء من العالم .
لكن غاية من جوز هذا أن يصير شاكا يقول : هذا ممكن ، وهذا ممكن ، ولا أدري أيهما الواقع ، وحينئذ فيمكن أن يعلم أحدهما بالسمع ، ومعلوم أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بأن الله خالق كل شيء ، وأنه خلق السماوات والأرض ، وما بينهما في ستة أيام ، فمن قدر أن عقله جوز الأمرين ، فبقي [8] شاكا أمكنه أن يعلم ، وقوع أحد الجائزين بالسمع .
وهذه طريقة صحيحة لمن سلكها ، فإن المقدمات الدقيقة [ الصحيحة ] والعلم بصدق الرسول ليس موقوفا على العلم بحدوث العالم ، [9] العقلية قد لا تظهر لكل أحد ، والله تعالى قد وسع طريق [10] الهدى لعباده ، فيعلم أحد المستدلين المطلوب بدليل ، ويعلمه الآخر بدليل آخر ، ومن علم صحة الدليلين [ معا ] [11] كان كل منهما يدله على المطلوب ، وكان [ ص: 197 ] اجتماع الأدلة يوجب قوة العلم ، وكل منهما يخلف الآخر إذا عزب [12] الآخر عن الذهن .