الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولكن مع كون أحد من العقلاء لم يعلم أنه قال : هذا ، ومع كون نقيضه [ مما ] [1] يعلم بالسمع ، فنحن نذكر دلالة العقل على فساده أيضا ، فنقول :

                  كما أنه ما يثبت قدمه امتنع عدمه ، فما جاز عدمه امتنع قدمه ، فإنه لو كان قديما لامتنع عدمه ، والتقدير أنه جائز العدم ، فيمتنع قدمه ، وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه ، بل جاز عدمه ، وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه ; لأنه لو كان قديما لم يجز عدمه ، بل امتنع عدمه .

                  وتلك المقدمة متفق عليها بين النظار متكلمهم ، ومتفلسفهم وغيرهم ، وبيان صحتها : أن ما يثبت قدمه ، فإما أن يكون قديما بنفسه ، أو بغيره ، فالقديم بنفسه واجب بنفسه ، والقديم بغيره واجب بغيره ، ولهذا كان كل من قال : إن العالم أو شيئا منه قديم ، فلا بد من أن يقول هو واجب بنفسه ، أو بغيره ، ولا يمكنه مع ذلك أن يقول : ليس هو بواجب بنفسه ، ولا بغيره ، فإن القديم بنفسه لو لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره ، فإن كان محدثا لم يكن قديما ، وإن كان قديما بغيره لم يكن قديما بنفسه ، وقد فرض أنه قديم بنفسه ، فثبت أن ما هو قديم بنفسه ، فهو واجب بنفسه .

                  وأما القديم بغيره ، فأكثر العقلاء يقولون : يمتنع أن يكون شيء قديما بفاعل ، ومن جوز ذلك فإنه يقول : قديم بقدم موجبه الواجب بنفسه ، [ ص: 198 ] ففاعله لا بد أن يوجبه فيكون علة موجبة أزلية إذ لو لم يوجبه ، بل جاز وجوده ، وجاز عدمه - وهو من [2] نفسه ليس له إلا العدم - لوجب عدمه ، ومع وجوب العدم يمتنع وجوده فضلا عن قدمه ، فما لم يكن موجودا بنفسه ، ولا قديما بنفسه إذا لم يكن له في الأزل ما يوجب وجوده لزم عدمه ، فإن المؤثر التام إذا حصل لزم وجود الأثر ، وإن لم يحصل لزم عدمه .

                  وإذا قيل : التأثير أولى به مع إمكان عدم التأثير قيل : هذه مقدمة باطلة كما تقدم ، وأنتم تسلمون صحتها ، والذين ادعوا صحتها لم يقولوا بباطل قولكم ، فلم يجمع أحد بين هذين القولين الباطلين .

                  ونحن في مقام الاستدلال ، فإن قلتم : نحن نقول هذا على طريق الإلزام لمن قال هذا من الجبرية ، والقدرية الذين يجوزون ترجيح القادر المختار بدون مرجح تام يوجب الفعل ، فنقول لهم هلا قلتم بأن الرب فاعل مختار ، وهو مع هذا . [3] فعله لازم له .

                  قيل لكم [4] : هؤلاء يقولون : إن الفعل القديم ممتنع لذاته ، ولو قدر أن الفاعل غير مختار ، فكيف إذا كان الفاعل مختارا .

                  فقد علم أن فعل القادر المختار يمتنع أن يكون مقارنا له .

                  ويقولون : لا يعقل الترجيح إلا مع الحدوث ، ويقولون : إن الممكن لا يعقل ترجيح وجوده على عدمه إلا مع كونه حادثا ، فأما الممكن المجرد بدون الحدوث [5] فلا يعقل كونه مفعولا . بل يقولون : إن هذا معلوم [ ص: 199 ] بالضرورة ، وهو كون [6] الممكن مما يمكن وجوده بدلا من عدمه ، وعدمه بدلا من وجوده ، وهذا إنما يكون فيما يمكن أن يكون [ موجودا ، ويمكن أن يكون ] [7] معدوما ، وما وجب قدمه بنفسه أو بغيره امتنع أن يكون معدوما ، فيمتنع أن يكون ممكنا .

                  قالوا : وهذا ما اتفق عليه جماهير العقلاء حتى أرسطو وأتباعه القدماء يقولون : إن الممكن لا يكون إلا محدثا ، وكذلك ابن رشد الحفيد ، وغيره من متأخريهم .

                  وإنما قال إن الممكن يكون قديما طائفة [ منهم ] [8] كابن سينا ، وأمثاله ، واتبعه على ذلك الرازي ، وغيره ، ولهذا ورد على هؤلاء من الإشكالات ما ليس [ لهم ] [9] عنه جواب صحيح ، كما أورد بعض ذلك الرازي في ( محصله ) ، ومحققوهم لا يقولون : إن المحوج إلى الفاعل هو مجرد الحدوث حتى يقولوا إن المحدث في حال بقائه غني عن الفاعل ، بل يقولون : إنه محتاج إلى الفاعل في حال حدوثه وحال بقائه ، وإن الممكن لا يحدث ولا يبقى إلا بالمؤثر .

                  فهذا الذي عليه جماهير المسلمين ، بل عليه جماهير [10] العقلاء لا يقولون : إن شيئا من العالم غني عن الله في حال بقائه ، بل يقولون : متى قدر أنه ليس بحادث امتنع أن يكون مفعولا محتاجا إلى المؤثر ، فالقدم [ ص: 200 ] عندهم ينافي الحاجة إلى الفاعل [11] ، وينافي كونه مفعولا فالحدوث [12] عندهم من لوازم كون الشيء مفعولا فيمتنع عندهم أن يكون مفعول قديما ، وهذا ليس قول القدرية والجبرية فقط ، بل هذا [13] قول جماهير العقلاء من أهل الملل وغير [ أهل الملل ] [14] ، وهو قول جماهير أئمة الفلاسفة .

                  وأما [15] كون الفلك مفعولا قديما ، فإنما هو قول طائفة قليلة من الفلاسفة ، وعند جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة ، ولهذا كل من تصور من العقلاء أن الله خلق السماوات والأرض تصور أنها كانت بعد أن لم تكن ، وكل من تصور أن شيئا من الموجودات مصنوع مفعول لله تصور أنه حادث ، فأما تصور أنه مفعول ، وأنه قديم ، فهذا إنما تتصوره العقول تقديرا له ، كما تتصور الجمع بين النقيضين تقديرا له ، والذي يقول ذلك يتعب تعبا كثيرا في تقدير إمكان ذلك ، وتصويره ، كما يتعب سائر القائلين بأقوال ممتنعة ، ثم مع هذا فالفطر ترد ذلك وتدفعه ، ولا تقبله [16] .

                  وأعجب من ذلك تسمية هؤلاء [17] العالم محدثا ، ويعنون بكونه محدثا [ ص: 201 ] أنه معلول العلة القديمة ، وإذا سئل أحدهم : هل العالم محدث أو قديم ؟ يقول : هو محدث وقديم ، ويعني بذلك أن الفلك قديم بنفسه [18] لم يزل ، وأنه محدث يعنون بكونه محدثا له أنه معلول [19] علة قديمة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية