ولكن مع كون أحد من العقلاء لم يعلم أنه قال : هذا ، ومع كون نقيضه [ مما ] [1] يعلم بالسمع ، فنحن نذكر على فساده أيضا ، فنقول : دلالة العقل
كما أنه ما يثبت قدمه امتنع عدمه ، فما جاز عدمه امتنع قدمه ، فإنه لو كان قديما لامتنع عدمه ، والتقدير أنه جائز العدم ، فيمتنع قدمه ، وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه ، بل جاز عدمه ، وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه ; لأنه لو كان قديما لم يجز عدمه ، بل امتنع عدمه .
وتلك المقدمة متفق عليها بين النظار متكلمهم ، ومتفلسفهم وغيرهم ، وبيان صحتها : أن ما يثبت قدمه ، فإما أن يكون قديما بنفسه ، أو بغيره ، فالقديم بنفسه واجب بنفسه ، والقديم بغيره واجب بغيره ، ولهذا كان كل من قال : إن العالم أو شيئا منه قديم ، فلا بد من أن يقول هو واجب بنفسه ، أو بغيره ، ولا يمكنه مع ذلك أن يقول : ليس هو بواجب بنفسه ، ولا بغيره ، فإن القديم بنفسه لو لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره ، فإن كان محدثا لم يكن قديما ، وإن كان قديما بغيره لم يكن قديما بنفسه ، وقد فرض أنه قديم بنفسه ، فثبت أن ما هو قديم بنفسه ، فهو واجب بنفسه .
وأما القديم بغيره ، فأكثر العقلاء يقولون : يمتنع أن يكون شيء قديما بفاعل ، ومن جوز ذلك فإنه يقول : قديم بقدم موجبه الواجب بنفسه ، [ ص: 198 ] ففاعله لا بد أن يوجبه فيكون علة موجبة أزلية إذ لو لم يوجبه ، بل جاز وجوده ، وجاز عدمه - وهو من [2] نفسه ليس له إلا العدم - لوجب عدمه ، ومع وجوب العدم يمتنع وجوده فضلا عن قدمه ، فما لم يكن موجودا بنفسه ، ولا قديما بنفسه إذا لم يكن له في الأزل ما يوجب وجوده لزم عدمه ، فإن المؤثر التام إذا حصل لزم وجود الأثر ، وإن لم يحصل لزم عدمه .
وإذا قيل : التأثير أولى به مع إمكان عدم التأثير قيل : هذه مقدمة باطلة كما تقدم ، وأنتم تسلمون صحتها ، والذين ادعوا صحتها لم يقولوا بباطل قولكم ، فلم يجمع أحد بين هذين القولين الباطلين .
ونحن في مقام الاستدلال ، فإن قلتم : نحن نقول هذا على طريق الإلزام لمن قال هذا من الجبرية ، والقدرية الذين يجوزون ترجيح القادر المختار بدون مرجح تام يوجب الفعل ، فنقول لهم هلا قلتم بأن الرب فاعل مختار ، وهو مع هذا . [3] فعله لازم له .
قيل لكم [4] : هؤلاء يقولون : إن الفعل القديم ممتنع لذاته ، ولو قدر أن الفاعل غير مختار ، فكيف إذا كان الفاعل مختارا .
فقد علم أن فعل القادر المختار يمتنع أن يكون مقارنا له .
ويقولون : لا يعقل الترجيح إلا مع الحدوث ، ويقولون : إن الممكن لا يعقل ترجيح وجوده على عدمه إلا مع كونه حادثا ، فأما الممكن المجرد بدون الحدوث [5] فلا يعقل كونه مفعولا . بل يقولون : إن هذا معلوم [ ص: 199 ] بالضرورة ، وهو كون [6] الممكن مما يمكن وجوده بدلا من عدمه ، وعدمه بدلا من وجوده ، وهذا إنما يكون فيما يمكن أن يكون [ موجودا ، ويمكن أن يكون ] [7] معدوما ، وما وجب قدمه بنفسه أو بغيره امتنع أن يكون معدوما ، فيمتنع أن يكون ممكنا .
قالوا : وهذا ما اتفق عليه جماهير العقلاء حتى أرسطو وأتباعه القدماء يقولون : ، وكذلك إن الممكن لا يكون إلا محدثا ، وغيره من متأخريهم . ابن رشد الحفيد
وإنما قال إن الممكن يكون قديما طائفة [ منهم ] [8] ، وأمثاله ، واتبعه على ذلك كابن سينا الرازي ، وغيره ، ولهذا ورد على هؤلاء من الإشكالات ما ليس [ لهم ] [9] عنه جواب صحيح ، كما أورد بعض ذلك الرازي في ( محصله ) ، ومحققوهم لا يقولون : إن المحوج إلى الفاعل هو مجرد الحدوث حتى يقولوا إن المحدث في حال بقائه غني عن الفاعل ، بل يقولون : إنه محتاج إلى الفاعل في حال حدوثه وحال بقائه ، وإن الممكن لا يحدث ولا يبقى إلا بالمؤثر .
فهذا الذي عليه جماهير المسلمين ، بل عليه جماهير [10] العقلاء لا يقولون : إن شيئا من العالم غني عن الله في حال بقائه ، بل يقولون : متى قدر أنه ليس بحادث امتنع أن يكون مفعولا محتاجا إلى المؤثر ، فالقدم [ ص: 200 ] عندهم ينافي الحاجة إلى الفاعل [11] ، وينافي كونه مفعولا فالحدوث [12] عندهم من لوازم كون الشيء مفعولا فيمتنع عندهم أن يكون مفعول قديما ، وهذا ليس قول القدرية والجبرية فقط ، بل هذا [13] قول جماهير العقلاء من أهل الملل وغير [ أهل الملل ] [14] ، وهو قول جماهير أئمة الفلاسفة .
وأما [15] كون الفلك مفعولا قديما ، فإنما هو قول طائفة قليلة من الفلاسفة ، وعند جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة ، ولهذا كل من تصور من العقلاء أن الله خلق السماوات والأرض تصور أنها كانت بعد أن لم تكن ، وكل من تصور أن شيئا من الموجودات مصنوع مفعول لله تصور أنه حادث ، فأما تصور أنه مفعول ، وأنه قديم ، فهذا إنما تتصوره العقول تقديرا له ، كما تتصور الجمع بين النقيضين تقديرا له ، والذي يقول ذلك يتعب تعبا كثيرا في تقدير إمكان ذلك ، وتصويره ، كما يتعب سائر القائلين بأقوال ممتنعة ، ثم مع هذا فالفطر ترد ذلك وتدفعه ، ولا تقبله [16] .
وأعجب من ذلك تسمية هؤلاء [17] العالم محدثا ، ويعنون بكونه محدثا [ ص: 201 ] أنه معلول العلة القديمة ، وإذا سئل أحدهم : ؟ يقول : هو محدث وقديم ، ويعني بذلك أن الفلك قديم بنفسه هل العالم محدث أو قديم [18] لم يزل ، وأنه محدث يعنون بكونه محدثا له أنه معلول [19] علة قديمة .