وهذه العبارة يقولها وأمثاله من ابن سينا الباطنية ، فإنهم يأخذون عبارات المسلمين ، فيطلقونها على [1] معانيهم ، كما قال مثل ذلك في لفظ ( . ) ، فإن أهل الكلام المحدث لما احتجوا بحدوث الأفعال على حدوث الفاعل الذي قامت به الأفعال ، وزعموا أن الأفول إبراهيم الخليل احتج بهذا ، وأن المراد بالأفول [2] الحركة والانتقال ، وأنه استدل بذلك على حدوث المتحرك والمنتقل . نقل هذه المادة إلى أصله ، وذكر هذا في ( إشاراته ) فجعل هذا ابن سينا [3] الأفول عبارة عن الإمكان ، وقال : إن ما هوى في حظيرة الإمكان هوى في حظيرة الأفول [4] ، ولفظه : [5] ( فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما . ) .
وذلك أنه أراد أن يقول بقول سلفه الفلاسفة مع قوله بما يشبه طريقة المتكلمين ، والمتكلمون استدلوا على حدوث الجسم بطريقة التركيب ، [ ص: 202 ] فجعل هو التركيب دليلا على الإمكان ، والمتكلمون جعلوا دليلهم هو دليل إبراهيم الخليل بقوله : ( لا أحب الآفلين ) [ سورة الأنعام : 76 ] وفسروه بأن الأفول هو الحركة ، فقال : ابن سينا [6] ( قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل [7] في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس . واجبا ، وتلوت [8] قوله تعالى : ( لا أحب الآفلين ) ، فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما . ) .
ويريد بالشرط أنه ليس بمركب ، وأن المركب ممكن ليس بواجب ، والممكن آفل لأن الإمكان أفول ما [9] ، والآفل [10] عندهم هو الذي يكون موجودا بغيره ، ويقولون : نحن نستدل بإمكان الممكنات على الواجب ، ونقول : العالم قديم لم يزل ولا يزال ، ونجعل معنى قوله تعالى : ( لا أحب الآفلين ) أي [11] لا أحب الممكنين ، وإن كان الممكن واجب الوجود بغيره قديما أزليا [12] لم يزل ولا يزال .
ومعلوم أن كلا القولين من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، وإنما الأفول هو المغيب [13] ، والاحتجاب ليس هو الإمكان ، ولا الحركة [ ص: 203 ] وإبراهيم الخليل [14] لم يحتج بذلك على حدوث الكواكب ، ولا على إثبات الصانع ، وإنما احتج بالأفول على بطلان عبادتها ، فإن قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب ، ويدعونها من دون الله لم يكونوا يقولون : إنها هي التي خلقت السماوات والأرض ، فإن هذا لا يقوله عاقل ، ولهذا قال : ( ياقوم إني بريء مما تشركون ) [ سورة الأنعام : 78 ] وقال : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ سورة الشعراء : 75 - 77 ] وقد بسط [ الكلام على ] [15] هذا في غير هذا الموضع [16] .
والمقصود هنا أن هؤلاء [ القوم ] [17] يأخذون عبارات المسلمين التي عبروا بها عن معنى ، فيعبرون بها عن معنى آخر يناقض دين المسلمين ليظهر بذلك أنهم موافقون للمسلمين في أقوالهم ، [ وأنهم ] [18] يقولون : العالم محدث ، وأن كل ما سوى الله فهو عندنا آفل محدث بمعنى أنه معلول له ، وإن كان قديما أزليا معه واجبا به لم يزل ولا يزال .
وإذا كان جماهير العقلاء يقولون : إن المفعول لا يكون إلا حادثا ، لا سيما المفعول لفاعل باختياره ، فإذا كان من هؤلاء من قال : إنه يفعل بدون سبب حادث ، وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح لم [ ص: 204 ] يلزمه أن يقول مع هذا [19] : إن مفعوله قديم رجحه بلا مرجح ، فإنه يقول : إن [20] هذا القول باطل ، وقولي الآخر إن كان باطلا فلا أجمع بين قولين باطلين ، وإن كان حقا ، فقول الحق لا يوجب علي [21] أن أقول الباطل ، فإن الحق لا يستلزم الباطل ، بل الباطل قد يستلزم الحق ، وهذا لا يضر [ الحق ] [22] ، فإنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم ، فالحق لازم سواء قدر وجود الباطل أو عدمه أما الباطل فلا يكون لازما للحق ; لأن لازم الحق حق ، والباطل لا يكون حقا ، فلا يلزم من قال الحق أن يقول الباطل ، وهذا ظاهر .
والمقصود هنا أنه متى قيل بجواز [23] حدوث الحوادث بدون [24] سبب حادث أمكن أن يفعل الفاعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا بدون سبب حادث ، كما يقول ذلك من يقوله من طوائف النظار من متكلمة المسلمين وغيرهم من القدرية والجبرية وغيرهم ، ومتى كان ذلك ممكنا في نفس الأمر لم يجب دوام الفاعل فاعلا . وأمكن حدوث الزمان والمادة وغير ذلك ، كما يقول ذلك من يقوله من النظار من أهل الكلام ، والفلسفة ، ومتى كان ذلك ممكنا بطل كل ما يحتج به على قدم شيء من العالم ، فبطل ، وعلم أيضا امتناع قدمه ; لأنه لا يكون [ ص: 205 ] قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه ، أو كان القول بقدم العالم [25] الفاعل مستلزما بنفسه [26] له ، فإذا لم يكن هناك فاعل مستلزم له امتنع أن يكون قديما ، وكان كل من حجج القائلين بالحدوث والقائلين بالقدم مبطلة لهذا القول .
أما [27] القائلون بالقدم ، فعمدتهم أن المؤثر التام يستلزم [28] أثره ، فيمتنع عندهم القول بمفعول قديم من غير علة تامة موجبة ; لأنه أثر عن غير مؤثر تام .
وأما القائلون بالحدوث ، فعمدتهم أن الفاعل المختار [29] ، بل الفاعل مطلقا لا يكون مفعوله إلا حادثا ، وأن مفعولا قديما ممتنع [30] .
فصار عمدة هؤلاء وهؤلاء مبطلة لهذا القول الذي لم يقله أحد ، ولكن يقال على سبيل الإلزام لكل من الطائفتين إذا التزمت فاسد [31] قولها دون صحيحه [32] ، فإذا التزمت ( القدمية ) جواز حدوث الحوادث بلا سبب ، وأن الأثر لا يحتاج إلى مؤثر تام ، بل القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، والتزمت ( الحدوثية ) أن المفعول مطلقا أو المفعول بالقدرة والاختيار لم يزل قديما أزليا مع فاعله مقارنا له لزم من هذين اللازمين إمكان أن يكون الفاعل قادرا مختارا يرجح بلا مرجح ، ومفعوله مع هذا قديما [ ص: 206 ] [ بقدمه ] [33] . لكن أحد من العقلاء لم يلتزم هذين فيما علمناه ، وإن قدر أنه التزم ذلك ، فقد التزم ملزومين باطلين كل منهما باطل بالبرهان ، والجمع بينهما لم يقله أحد من العقلاء ، وكان كل من العقلاء يرد عليه ببرهان قاطع ، ولكن هو يعارض كلام كل طائفة بكلام الطائفة الأخرى ، وغايته فساد بعض قول هؤلاء وفساد بعض قول هؤلاء ، لكن لا يلزم أن يسلم له الجمع بين فساد كل من القولين ولا الجمع بين هذا الفساد وهذا الفساد ، بل هذا يكون أبلغ في رد قوله .
وأيضا فإن كلا من الطائفتين فرت من أحد الفسادين ، وظنت الآخر ليس بفاسد ، ولم تهتد إلى الجمع بين الصحيح كله والسلامة من الفاسد كله ، فليس له أن يلزمها ما علمت فساده مع ما لم تعلم فساده ، فيلزمها الفاسد كله ويخرجها من الصحيح كله ، فإن غاية [34] قولها أبلق أن يكون [35] فيه بياض وسواد ، [ والأبلق خير من الأسود ] [36] .
فإن الطائفة التي قالت : إن القادر يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح إنما قالته لما علمت [37] أن القادر الفاعل لا بد أن يكون فعله حادثا ، وأن [38] كونه فاعلا مع كون الفعل قديما جمع بين المتناقضين ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين نوع الفعل ، وبين عينه ، بل [ ص: 207 ] اعتقدت أيضا ، فقالت حينئذ : فيمتنع دوام الفعل ، فيلزم كونه فاعلا بعد أن لم يكن ، فيلزم ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ; لأن القادرية لا تختص ولم تزل أن حوادث لا أول لها ممتنع [39] ، وإن قيل باختصاصها ، أو حدوثها لزم حدوث القادرية [40] بلا محدث ، وتخصيصها بغير مخصص ، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب ، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بدون سبب يوجب هذا الانتقال . وإذا جاز ذلك ، فجواز كونه مرجحا لأحد مقدوريه أولى بالجواز .
وهذه اللوازم - وإن قال الجمهور ببطلانها - فإنهم يقولون : ألجأنا إليها تلك الملزومات [41] لما ذكرناه من ظنهم أنه لا فرق بين النوع والعين ، وإذا قيل لهم : فقولوا مع هذه اللوازم بانتفاء تلك الملزومات ، فقالوا [42] : إن القادر يرجح أحد المقدورين على الآخر [43] بلا مرجح ، ويحدث الحوادث بلا سبب مع أن الفاعل القادر يقارنه مفعوله المعين ، وأنه لا أول لعين الفعل والمفعول ، فقد لزمهم [44] أن يقولوا باللوازم التي يظهر بطلانها مع نفي الملزومات التي أوجبت تلك في نظرهم التي فيها ما يظهر بطلانه ، وفيها ما يخفى بطلانه ، فقد لزمهم [45] أن يقولوا باللازم الباطل [ ص: 208 ] الذي لا حاجة بهم [46] إليه ، مع نفي ما أحوجهم إليه مع أن فيه حقا ، أو فيه حقا وباطلا .
وكذلك الطائفة التي قالت بقدم العالم ، فإنها لما اعتقدت أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن ، وأن يحدث حادثا [47] لا في وقت ، ويمتنع الوقت في العدم المحض ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين دوام النوع ودوام العين [48] ظنت أنه يلزم قدم عين المفعول ، فالتزمت مفعولا قديما أزليا لفاعل ، ثم قال : من قال منهم : لا يعقل [49] كون الفاعل فاعلا بالاختيار مع كون مفعوله قديما مقارنا له ، فقالوا : هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ، والتزموا [50] ما هو معلوم الفساد عند جمهور العقلاء من مفعول معين مقارن لفاعله [51] أزلا وأبدا حذرا من إثبات كونه [52] يصير فاعلا بعد أن لم يكن .
فإذا قيل لهم : فقولوا بهذه الأقوال مع قولكم : إنه يمكن أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن ، فيرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، فقد لزمهم أن يقولوا الباطل كله ، وأن يقولوا باللازم الذي يظهر بطلانه بدون الملزوم الذي فيه حق وباطل - الذي ألجأهم إلى هذا اللازم .
[ ص: 209 ] وأيضا ، فإنه على هذا التقدير الذي نتكلم عليه ، وهو تقدير أن لا يكون الأزلي مستلزما لتلك الحوادث ، بل كانت حادثة بعد أن لم تكن ، فيلزم [53] أن العالم كان خاليا عن جميع الحوادث ، ثم حدثت [54] فيه بلا سبب حادث ، وهو شبيه بقول الحرانيين القائلين [55] بالقدماء الخمسة الواجب بنفسه ، والمادة ، والمدة ، والنفس ، والهيولي ، كما يقوله ديمقراطيس [56] ، وابن زكريا الطبيب [57] ومن . وافقهما ، أو بقول يحكى عن بعض القدماء ، وهو أن جواهر العالم [58] أزلية ، وهو القول بقدم المادة - [ ص: 210 ] وكانت متحركة على غير انتظام فاتفق اجتماعها ، وانتظامها ، فحدث هذا العالم .