الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وهذه العبارة يقولها ابن سينا وأمثاله من الباطنية ، فإنهم يأخذون عبارات المسلمين ، فيطلقونها على [1] معانيهم ، كما قال مثل ذلك في لفظ ( الأفول . ) ، فإن أهل الكلام المحدث لما احتجوا بحدوث الأفعال على حدوث الفاعل الذي قامت به الأفعال ، وزعموا أن إبراهيم الخليل احتج بهذا ، وأن المراد بالأفول [2] الحركة والانتقال ، وأنه استدل بذلك على حدوث المتحرك والمنتقل . نقل ابن سينا هذه المادة إلى أصله ، وذكر هذا في ( إشاراته ) فجعل هذا [3] الأفول عبارة عن الإمكان ، وقال : إن ما هوى في حظيرة الإمكان هوى في حظيرة الأفول [4] ، ولفظه : [5] ( فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما . ) .

                  وذلك أنه أراد أن يقول بقول سلفه الفلاسفة مع قوله بما يشبه طريقة المتكلمين ، والمتكلمون استدلوا على حدوث الجسم بطريقة التركيب ، [ ص: 202 ] فجعل هو التركيب دليلا على الإمكان ، والمتكلمون جعلوا دليلهم هو دليل إبراهيم الخليل بقوله : ( لا أحب الآفلين ) [ سورة الأنعام : 76 ] وفسروه بأن الأفول هو الحركة ، فقال ابن سينا : [6] ( قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل [7] في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس . واجبا ، وتلوت [8] قوله تعالى : ( لا أحب الآفلين ) ، فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما . ) .

                  ويريد بالشرط أنه ليس بمركب ، وأن المركب ممكن ليس بواجب ، والممكن آفل لأن الإمكان أفول ما [9] ، والآفل [10] عندهم هو الذي يكون موجودا بغيره ، ويقولون : نحن نستدل بإمكان الممكنات على الواجب ، ونقول : العالم قديم لم يزل ولا يزال ، ونجعل معنى قوله تعالى : ( لا أحب الآفلين ) أي [11] لا أحب الممكنين ، وإن كان الممكن واجب الوجود بغيره قديما أزليا [12] لم يزل ولا يزال .

                  ومعلوم أن كلا القولين من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، وإنما الأفول هو المغيب [13] ، والاحتجاب ليس هو الإمكان ، ولا الحركة [ ص: 203 ] وإبراهيم الخليل [14] لم يحتج بذلك على حدوث الكواكب ، ولا على إثبات الصانع ، وإنما احتج بالأفول على بطلان عبادتها ، فإن قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب ، ويدعونها من دون الله لم يكونوا يقولون : إنها هي التي خلقت السماوات والأرض ، فإن هذا لا يقوله عاقل ، ولهذا قال : ( ياقوم إني بريء مما تشركون ) [ سورة الأنعام : 78 ] وقال : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ سورة الشعراء : 75 - 77 ] وقد بسط [ الكلام على ] [15] هذا في غير هذا الموضع [16] .

                  والمقصود هنا أن هؤلاء [ القوم ] [17] يأخذون عبارات المسلمين التي عبروا بها عن معنى ، فيعبرون بها عن معنى آخر يناقض دين المسلمين ليظهر بذلك أنهم موافقون للمسلمين في أقوالهم ، [ وأنهم ] [18] يقولون : العالم محدث ، وأن كل ما سوى الله فهو عندنا آفل محدث بمعنى أنه معلول له ، وإن كان قديما أزليا معه واجبا به لم يزل ولا يزال .

                  وإذا كان جماهير العقلاء يقولون : إن المفعول لا يكون إلا حادثا ، لا سيما المفعول لفاعل باختياره ، فإذا كان من هؤلاء من قال : إنه يفعل بدون سبب حادث ، وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح لم [ ص: 204 ] يلزمه أن يقول مع هذا [19] : إن مفعوله قديم رجحه بلا مرجح ، فإنه يقول : إن [20] هذا القول باطل ، وقولي الآخر إن كان باطلا فلا أجمع بين قولين باطلين ، وإن كان حقا ، فقول الحق لا يوجب علي [21] أن أقول الباطل ، فإن الحق لا يستلزم الباطل ، بل الباطل قد يستلزم الحق ، وهذا لا يضر [ الحق ] [22] ، فإنه إذا وجد الملزوم وجد اللازم ، فالحق لازم سواء قدر وجود الباطل أو عدمه أما الباطل فلا يكون لازما للحق ; لأن لازم الحق حق ، والباطل لا يكون حقا ، فلا يلزم من قال الحق أن يقول الباطل ، وهذا ظاهر .

                  والمقصود هنا أنه متى قيل بجواز [23] حدوث الحوادث بدون [24] سبب حادث أمكن أن يفعل الفاعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا بدون سبب حادث ، كما يقول ذلك من يقوله من طوائف النظار من متكلمة المسلمين وغيرهم من القدرية والجبرية وغيرهم ، ومتى كان ذلك ممكنا في نفس الأمر لم يجب دوام الفاعل فاعلا . وأمكن حدوث الزمان والمادة وغير ذلك ، كما يقول ذلك من يقوله من النظار من أهل الكلام ، والفلسفة ، ومتى كان ذلك ممكنا بطل كل ما يحتج به على قدم شيء من العالم ، فبطل القول بقدم العالم ، وعلم أيضا امتناع قدمه ; لأنه لا يكون [ ص: 205 ] قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه ، أو كان [25] الفاعل مستلزما بنفسه [26] له ، فإذا لم يكن هناك فاعل مستلزم له امتنع أن يكون قديما ، وكان كل من حجج القائلين بالحدوث والقائلين بالقدم مبطلة لهذا القول .

                  أما [27] القائلون بالقدم ، فعمدتهم أن المؤثر التام يستلزم [28] أثره ، فيمتنع عندهم القول بمفعول قديم من غير علة تامة موجبة ; لأنه أثر عن غير مؤثر تام .

                  وأما القائلون بالحدوث ، فعمدتهم أن الفاعل المختار [29] ، بل الفاعل مطلقا لا يكون مفعوله إلا حادثا ، وأن مفعولا قديما ممتنع [30] .

                  فصار عمدة هؤلاء وهؤلاء مبطلة لهذا القول الذي لم يقله أحد ، ولكن يقال على سبيل الإلزام لكل من الطائفتين إذا التزمت فاسد [31] قولها دون صحيحه [32] ، فإذا التزمت ( القدمية ) جواز حدوث الحوادث بلا سبب ، وأن الأثر لا يحتاج إلى مؤثر تام ، بل القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، والتزمت ( الحدوثية ) أن المفعول مطلقا أو المفعول بالقدرة والاختيار لم يزل قديما أزليا مع فاعله مقارنا له لزم من هذين اللازمين إمكان أن يكون الفاعل قادرا مختارا يرجح بلا مرجح ، ومفعوله مع هذا قديما [ ص: 206 ] [ بقدمه ] [33] . لكن أحد من العقلاء لم يلتزم هذين فيما علمناه ، وإن قدر أنه التزم ذلك ، فقد التزم ملزومين باطلين كل منهما باطل بالبرهان ، والجمع بينهما لم يقله أحد من العقلاء ، وكان كل من العقلاء يرد عليه ببرهان قاطع ، ولكن هو يعارض كلام كل طائفة بكلام الطائفة الأخرى ، وغايته فساد بعض قول هؤلاء وفساد بعض قول هؤلاء ، لكن لا يلزم أن يسلم له الجمع بين فساد كل من القولين ولا الجمع بين هذا الفساد وهذا الفساد ، بل هذا يكون أبلغ في رد قوله .

                  وأيضا فإن كلا من الطائفتين فرت من أحد الفسادين ، وظنت الآخر ليس بفاسد ، ولم تهتد إلى الجمع بين الصحيح كله والسلامة من الفاسد كله ، فليس له أن يلزمها ما علمت فساده مع ما لم تعلم فساده ، فيلزمها الفاسد كله ويخرجها من الصحيح كله ، فإن غاية [34] قولها أبلق أن يكون [35] فيه بياض وسواد ، [ والأبلق خير من الأسود ] [36] .

                  فإن الطائفة التي قالت : إن القادر يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح إنما قالته لما علمت [37] أن القادر الفاعل لا بد أن يكون فعله حادثا ، وأن [38] كونه فاعلا مع كون الفعل قديما جمع بين المتناقضين ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين نوع الفعل ، وبين عينه ، بل [ ص: 207 ] اعتقدت أيضا أن حوادث لا أول لها ممتنع ، فقالت حينئذ : فيمتنع دوام الفعل ، فيلزم كونه فاعلا بعد أن لم يكن ، فيلزم ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ; لأن القادرية لا تختص ولم تزل [39] ، وإن قيل باختصاصها ، أو حدوثها لزم حدوث القادرية [40] بلا محدث ، وتخصيصها بغير مخصص ، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب ، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بدون سبب يوجب هذا الانتقال . وإذا جاز ذلك ، فجواز كونه مرجحا لأحد مقدوريه أولى بالجواز .

                  وهذه اللوازم - وإن قال الجمهور ببطلانها - فإنهم يقولون : ألجأنا إليها تلك الملزومات [41] لما ذكرناه من ظنهم أنه لا فرق بين النوع والعين ، وإذا قيل لهم : فقولوا مع هذه اللوازم بانتفاء تلك الملزومات ، فقالوا [42] : إن القادر يرجح أحد المقدورين على الآخر [43] بلا مرجح ، ويحدث الحوادث بلا سبب مع أن الفاعل القادر يقارنه مفعوله المعين ، وأنه لا أول لعين الفعل والمفعول ، فقد لزمهم [44] أن يقولوا باللوازم التي يظهر بطلانها مع نفي الملزومات التي أوجبت تلك في نظرهم التي فيها ما يظهر بطلانه ، وفيها ما يخفى بطلانه ، فقد لزمهم [45] أن يقولوا باللازم الباطل [ ص: 208 ] الذي لا حاجة بهم [46] إليه ، مع نفي ما أحوجهم إليه مع أن فيه حقا ، أو فيه حقا وباطلا .

                  وكذلك الطائفة التي قالت بقدم العالم ، فإنها لما اعتقدت أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن ، وأن يحدث حادثا [47] لا في وقت ، ويمتنع الوقت في العدم المحض ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين دوام النوع ودوام العين [48] ظنت أنه يلزم قدم عين المفعول ، فالتزمت مفعولا قديما أزليا لفاعل ، ثم قال : من قال منهم : لا يعقل [49] كون الفاعل فاعلا بالاختيار مع كون مفعوله قديما مقارنا له ، فقالوا : هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ، والتزموا [50] ما هو معلوم الفساد عند جمهور العقلاء من مفعول معين مقارن لفاعله [51] أزلا وأبدا حذرا من إثبات كونه [52] يصير فاعلا بعد أن لم يكن .

                  فإذا قيل لهم : فقولوا بهذه الأقوال مع قولكم : إنه يمكن أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن ، فيرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، فقد لزمهم أن يقولوا الباطل كله ، وأن يقولوا باللازم الذي يظهر بطلانه بدون الملزوم الذي فيه حق وباطل - الذي ألجأهم إلى هذا اللازم .

                  [ ص: 209 ] وأيضا ، فإنه على هذا التقدير الذي نتكلم عليه ، وهو تقدير أن لا يكون الأزلي مستلزما لتلك الحوادث ، بل كانت حادثة بعد أن لم تكن ، فيلزم [53] أن العالم كان خاليا عن جميع الحوادث ، ثم حدثت [54] فيه بلا سبب حادث ، وهو شبيه بقول الحرانيين القائلين [55] بالقدماء الخمسة الواجب بنفسه ، والمادة ، والمدة ، والنفس ، والهيولي ، كما يقوله ديمقراطيس [56] ، وابن زكريا الطبيب [57] ومن . وافقهما ، أو بقول يحكى عن بعض القدماء ، وهو أن جواهر العالم [58] أزلية ، وهو القول بقدم المادة - [ ص: 210 ] وكانت متحركة على غير انتظام فاتفق اجتماعها ، وانتظامها ، فحدث هذا العالم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية