وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف
[1] على أهل القبلة ، حتى قاتلت وغيره من المسلمين . وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف [ في الجملة ] عليا
[2] من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم ، كالذين خرجوا مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين ، وأخيه إبراهيم بن عبد الله [ بن حسن بن حسين ]
[3] وغير هؤلاء ، فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه دينا .
[ ص: 537 ] لكن قد يخطئون من وجهين :
أحدهما : أن يكون ما رأوه دينا ليس بدين
[4] ، كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء ; فإنهم يعتقدون رأيا هو خطأ وبدعة ، ويقاتلون الناس عليه ، بل يكفرون من خالفهم ، فيصيرون مخطئين في رأيهم ، وفي قتال
[5] من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم .
وهذه حال
[6] عامة أهل الأهواء ، كالجهمية الذين يدعون الناس إلى إنكار حقيقة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى
[7] ، ويقولون : إنه ليس له كلام إلا ما خلقه في غيره ، وإنه لا يرى ، ونحو ذلك . وامتحنوا الناس لما مال إليهم بعض ولاة الأمور ، فصاروا يعاقبون من خالفهم في رأيهم : إما بالقتل ، وإما بالحبس ، وإما بالعزل ومنع الرزق . وكذلك قد
[8] فعلت الجهمية ذلك
[9] غير مرة ، والله ينصر عباده المؤمنين عليهم .
والرافضة شر منهم : إذا تمكنوا فإنهم يوالون الكفار وينصرونهم ، ويعادون من المسلمين كل من لم يوافقهم على رأيهم . وكذلك من فيه نوع من البدع : إما من بدع الحلولية : حلولية الذات أو الصفات ، وإما من بدع النفاة أو الغلو في الإثبات ، وإما [ من ]
[10] بدع القدرية أو الإرجاء [ ص: 538 ] أو غير ذلك - تجده يعتقد اعتقادات فاسدة ، ويكفر من خالفه أو يلعنه . والخوارج المارقون أئمة هؤلاء في تكفير أهل السنة والجماعة وفي قتالهم .
الوجه الثاني : من يقاتل
[11] على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة ، كأهل الجمل وصفين والحرة والجماجم وغيرهم ، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة ، فلا يحصل بالقتال ذلك ، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت ، فيتبين لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر .
وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع ، أو لم تثبت عنده . وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم . وفيهم من يتأولها كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص .
فإن بهذه الوجوه [ الثلاثة ]
[12] يترك من يترك
[13] من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص ; إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما أن يعتقدها غير دالة على مورد الاستدلال ، وإما أن يعتقدها منسوخة .
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة ، فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده . ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده ، والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح ، بمعرفة الحق وقصده . فيتفق أن بعض [ ص: 539 ] الولاة يظلم باستئثار
[14] فلا تصبر النفوس على ظلمه ، ولا يمكنها دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فسادا منه . ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه ، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
[15] .
وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنهما - وأسيد بن حضير الأنصار قال : يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ قال : " ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " أن رجلا من
[16] .
وفي رواية [ ] للبخاري
[17] عن سمع يحيى بن سعيد الأنصاري حين خرج معه إلى أنس بن مالك الوليد قال : الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من [ ص: 540 ] المهاجرين مثلها . فقال : " أما لا ، فاصبروا حتى تلقوني [ على الحوض ]
[18] فإنه ستصيبكم أثرة بعدي " دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -
[19] .
وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " " على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره ، ومنشطه ومكرهه ، وأثرة عليه [20] .
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
[21] عن عبادة قال : " " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة : في عسرنا ويسرنا ، ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم [22] .
فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم ، وأن يطيعوا ولاة [ أمورهم وإن استأثروا عليهم ، وأن لا ينازعوهم الأمر . وكثير ممن خرج على ولاة ]
[23] الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ، ولم يصبروا [24] على الاستئثار . ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى ، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم
[25] تلك السيئات ، ويبقى [ ص: 541 ] المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، ومن أعظم ما حركه عليه
[26] طلب غرضه : إما ولاية ، وإما مال
[27] .
كما قال تعالى : ( فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) [ سورة التوبة : 58 ] وفي الصحيح
[28] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
[29] ابن السبيل ، يقول الله له [ يوم القيامة ]
[30] : اليوم أمنعك فضلي
[31] كما منعت فضل ما لم تعمل يداك . ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا : إن أعطاه منها رضي : وإن منعه سخط . ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا : لقد أعطى بها أكثر مما أعطى " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء يمنعه من
[32] .
فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة ، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة . والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين ، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم ، حتى قال : " " ما من راع يسترعيه الله [ ص: 542 ] رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة
[33] .
وأمر الرعية بالطاعة والنصح ، كما ثبت في الحديث
[34] الصحيح : " " الدين النصيحة " - ثلاثا - قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
[35] .
وأمر بالصبر على استئثارهم ، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم ، لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة ، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر
[36] ، فلا يزال أخف الفسادين بأعظمهما .
ومن تدبر الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتبر ذلك بما يجده في
[37] نفسه وفي الآفاق علم تحقيق قول الله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) [ سورة فصلت : 53 ] .
[ ص: 543 ] ; فإن الله تعالى يري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القرآن حق ، فخبره صدق
[38] وأمره عدل : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) [ سورة الأنعام : 115 ] .
ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، أهل البيت وغيرهم ، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن ، ونوع من الهوى الخفي ، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه [ فيه ]
[39] ، وإن كان من أولياء الله المتقين .
ومثل هذا إذا وقع يصير
[40] فتنة لطائفتين
[41] : طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه ، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه ، بل في بره وكونه من أهل الجنة ، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان . وكلا هذين الطرفين
[42] فاسد .
والخوارج والروافض
[43] وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا . ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم ، وأحبه ووالاه ، وأعطى الحق حقه ، فيعظم الحق ، ويرحم الخلق ، ويعلم [ ص: 544 ] أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه .
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم . وقد بسط هذا في موضعه .
وإذا تبين ذلك فالقول في يزيد كالقول في أشباهه من الخلفاء والملوك : من وافقهم في طاعة الله تعالى : كالصلاة ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود - كان مأجورا على ما فعله من طاعة الله ورسوله . وكذلك كان صالحو المؤمنين
[44] يفعلون
[45] ، وأمثاله . ومن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، كان من المعينين على الإثم والعدوان ، المستحقين للذم والعقاب . كعبد الله بن عمر
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يغزون مع يزيد وغيره ، فإنه غزا القسطنطينية في حياة أبيه - رضي الله عنه - وكان معهم معاوية
[46] في الجيش - رضي الله عنه - وذلك الجيش أبو أيوب الأنصاري القسطنطينية . أول جيش غزا
وفي صحيح عن البخاري - رضي الله عنهما ، - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ابن عمر القسطنطينية مغفور لهم " أول جيش يغزو
[47] .
[ ص: 545 ] وعامة الخلفاء الملوك جرى في أوقاتهم فتن ، كما جرى في زمن قتل يزيد بن معاوية ، ووقعة الحسين الحرة ، وحصار ابن الزبير بمكة . وجرى في زمن فتنة مروان بن الحكم مرج راهط بينه وبين ، وجرى في زمن النعمان بن بشير فتنة عبد الملك وأخيه مصعب بن الزبير وحصاره أيضا عبد الله بن الزبير بمكة . وجرى في زمن فتنة هشام زيد بن علي . وجرى في زمن مروان بن محمد فتنة أبي مسلم ، حتى خرج عنهم الأمر إلى ولد . ثم كان في زمن العباس المنصور فتنة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بالمدينة ، وأخيه إبراهيم بالبصرة ، إلى فتن يطول وصفها .
والفتن
[48] في كل زمان بحسب رجاله ; فالفتنة الأولى فتنة قتل - رضي الله عنه - هي أول الفتن وأعظمها . عثمان
ولهذا جاء في الحديث المرفوع الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره : " " ثلاث من نجا منهن فقد نجا : موتي ، وقتل خليفة مضطهد بغير حق ، والدجال [49]
.
[ ص: 546 ] ولهذا جاء [50]
في حديث لما سأل عن الفتنة التي تموج موج البحر ، وقال له عمر : إن بينك وبينها بابا مغلقا . فقال : أيكسر الباب أم يفتح ؟ فقال : بل يكسر . فقال : لو كان يفتح لكاد يعاد حذيفة [51]
. وكان هو الباب ، فقتل عمر ، وتولى عمر ، فحدثت أسباب الفتنة في آخر خلافته ، حتى قتل وانفتح باب الفتنة إلى يوم القيامة ، وحدث بسبب ذلك فتنة الجمل عثمان وصفين ، ولا يقاس رجالهما بأحد ، فإنهم أفضل من كل من بعدهم .
وكذلك فتنة الحرة وفتنة ، كان فيها من خيار التابعين من لا يقاس بهم من بعدهم . وليس في وقوع هذه الفتن في تلك الأعصار ما يوجب أن أهل ذلك العصر كانوا شرا من غيرهم ، بل فتنة كل زمان بحسب رجاله . ابن الأشعث
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم [52]
.
وفتن ما بعد ذلك الزمان بحسب أهله . وقد روي أنه قال : " كما تكونون يولى عليكم " [53]
. وفي أثر آخر يقول الله تعالى : ( أنا الله عز وجل ملك [ ص: 547 ] الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم " [54]
.
ولما انهزم المسلمون يوم أحد هزمهم الكفار . قال الله تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) [ سورة آل عمران : 165 ] .
والذنوب ترفع عقوبتها [ بالتوبة ] والاستغفار [55]
والحسنات الماحية والمصائب المكفرة .
والقتل الذي وقع في الأمة مما يكفر الله به ذنوبها ، كما جاء في الحديث . والفتنة هي من جنس الجاهلية ، كما قال : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون الزهري
[56] ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر : أنزلوهم منزلة الجاهلية .
وذلك أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ، فبالهدى يعرف الحق ، وبدين الحق يقصد الخير ويعمل به ، فلا بد من علم بالحق ، وقصد له وقدرة عليه . والفتنة تضاد ذلك ; فإنها تمنع معرفة [ ص: 548 ] الحق أو قصده أو القدرة عليه ، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل ، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم ، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته ، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير
[57] .
ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة ، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده . ولهذا يقال : فتنة عمياء صماء . ويقال : فتن كقطع الليل المظلم ، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها ، وخفاء العلم .
فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل
[58] الجاهلية ( * ، ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال ، لأن الضمان يكون لمن يعرف أنه
[59] أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق ، فأما من لم يعرف ذلك ، كأهل الجاهلية * ) [60] من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين ، [ فلا يعرفون ذلك ]
[61] ، فلا ضمان عليهم ، كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق ، وإن كان هذا مثابا مصيبا .
وذلك من أهل الجاهلية إما أن يتوبوا من تلك الجهالة
[62] ، فيغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها ، وإما أن يكونوا ممن يستحق العذاب على [ ص: 549 ] الجهالة
[63] كالكفار ، فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الآخرة . وإما أن يكون أحدهم [ متأولا ]
[64] مجتهدا مخطئا ; فهؤلاء إذا غفر لهم خطؤهم
[65] غفر لهم موجبات الخطأ أيضا
[66] .