والجواب : أن القول في لعنة يزيد   كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء 
[1] وغيرهم ، ويزيد  خير من غيره : خير من  المختار بن أبي عبيد الثقفي  أمير العراق  ، الذي أظهر الانتقام من قتلة  الحسين   ; فإن هذا ادعى أن جبريل  يأتيه . وخير من  الحجاج بن يوسف   ; فإنه أظلم من يزيد  باتفاق الناس . 
ومع هذا فيقال : غاية يزيد  وأمثاله من الملوك أن يكونوا فساقا ، فلعنة الفاسق المعين ليست مأمورا بها ، إنما جاءت السنة بلعنة 
[2] الأنواع ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لعن الله السارق ; يسرق البيضة فتقطع  [ ص: 568 ] يده " 
[3]  . وقوله : " لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا  " 
[4]  . وقوله : " لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه  " 
[5]  . وقوله : " لعن الله المحلل والمحلل له  " 
[6] ، " لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ،  [ ص: 569 ] وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها  " 
[7]  . 
وقد تنازع الناس في لعنة الفاسق المعين   . فقيل : إنه جائز ، كما قال ذلك طائفة من أصحاب  أحمد  وغيرهم ،  كأبي الفرج بن الجوزي  وغيره . وقيل : إنه لا يجوز ، كما قال ذلك طائفة أخرى من أصحاب  أحمد  وغيرهم ، كأبي بكر عبد العزيز  وغيره . والمعروف عن  أحمد  كراهة 
[8] لعن المعين ، كالحجاج بن يوسف  وأمثاله ، وأن يقول كما قال الله تعالى : ( ألا لعنة الله على الظالمين   ) [ سورة هود : 18 ] وقد ثبت في [ صحيح ]  البخاري  
[9] أن رجلا كان يدعى حمارا  
[10] ، وكان يشرب الخمر ، وكان يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضربه ، فأتي به إليه مرة ، فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تلعنه ، فإنه يحب الله ورسوله  " 
[11]  . 
فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معللا ذلك بأنه يحب الله ورسوله ، مع أنه - صلى الله عليه وسلم -  [ ص: 570 ] لعن شارب الخمر مطلقا ، فدل ذلك على أنه [ يجوز أن ] 
[12] يلعن المطلق ولا تجوز لعنة المعين الذي يحب الله ورسوله . 
[ ومن المعلوم أن كل مؤمن فلا بد 
[13] أن يحب الله ورسوله ] 
[14] ، ولكن في المظهرين للإسلام من هم منافقون ، فأولئك ملعونون لا يحبون الله ورسوله ، ومن علم حال الواحد من هؤلاء لم يصل عليه إذا مات ، لقوله تعالى : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره   ) [ سورة التوبة : 84 ] . 
ومن جوز [ من أهل السنة والجماعة ] 
[15] لعنة الفاسق المعين 
[16]  ; فإنه يقول يجوز أن أصلي عليه وأن ألعنه ، فإنه مستحق للثواب [ مستحق للعقاب ] 
[17] ، فالصلاة عليه لاستحقاقه الثواب ، واللعنة له لاستحقاقه العقاب 
[18]  . واللعنة البعد عن الرحمة ، والصلاة عليه سبب للرحمة ، فيرحم من وجه ، ويبعد عنها من وجه . 
وهذا كله على مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وسائر أهل السنة والجماعة ، ومن يدخل فيهم من الكرامية  والمرجئة  والشيعة  ، ومذهب كثير من الشيعة الإمامية  وغيرهم الذين يقولون : إن الفاسق لا يخلد في  [ ص: 571 ] النار   . وأما من يقول بتخليده في النار كالخوارج  
[19] والمعتزلة  وبعض الشيعة  ، فهؤلاء عندهم لا يجتمع في حق الشخص الواحد ثواب وعقاب . 
وقد استفاضت السنن النبوية بأنه يخرج من النار قوم بالشفاعة ، ويخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . وعلى هذا الأصل فالذي يجوز لعنة يزيد   [ وأمثاله ] 
[20] يحتاج إلى شيئين : إلى ثبوت أنه كان من الفساق الظالمين الذين تباح لعنتهم ، [ وأنه مات مصرا على ذلك ]
[21]  . والثاني : أن لعنة المعين من هؤلاء جائزة . والمنازع يطعن في المقدمتين ، لا سيما الأولى . 
فأما قول الله تعالى : ( ألا لعنة الله على الظالمين   ) [ سورة هود : 18 ] فهي آية عامة كآيات الوعيد ، بمنزلة قوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا   ) [ سورة النساء : 10 ] وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب اللعن والعذاب ، لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح : إما توبة ، وإما حسنات ماحية ، وإما مصائب مكفرة . فمن أين يعلم الإنسان أن يزيد  أو غيره من الظلمة لم يتب من هذه 
[22] ؟ أو لم تكن له حسنات ماحية تمحو ظلمه ؟ ولم يبتل بمصائب تكفر عنه ؟ [ وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى ] 
[23]  : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   ) [ سورة النساء : 48 ] . وقد ثبت في صحيح  البخاري  
[24]  [ ص: 572 ] عن  ابن عمر   - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم   " [25] وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد  ، والجيش عدد معين لا مطلق ، وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين ، فإن هذا أخص ، والجيش معينون . 
ويقال : إن يزيد  إنما غزا القسطنطينية  لأجل هذا الحديث . ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم ، فإن فتح هذا الباب ساغ 
[26] أن يلعن أكثر موتى المسلمين . والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين ، لم يأمر بلعنتهم 
[27]  . 
ثم الكلام في لعنة الأموات  أعظم من لعنة الحي ; فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تسبوا الأموات  [ ص: 573 ] فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا  " 
[28]  . حتى أنه قال : " لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا  " 
[29] لما كان قوم يسبون أبا جهل  ونحوه من الكفار الذين أسلم أقاربهم ، فإذا سبوا ذلك آذوا قرابته . 
وأما ما نقله عن  أحمد  ، فالمنصوص الثابت عنه من رواية صالح  أنه قال : " ومتى رأيت أباك يلعن أحدا ؟ [ لما قيل له : ألا تلعن يزيد  ؟ فقال : ومتى رأيت أباك يلعن أحدا ؟ ] 
[30] وثبت عنه أن الرجل إذا ذكر  الحجاج  ونحوه من الظلمة وأراد أن يلعن يقول 
[31]  : ألا لعنة الله على الظالمين  ، وكره أن يلعن المعين باسمه   . 
ونقلت عنه رواية في لعنة يزيد  وأنه قال : ألا ألعن من لعنه الله ، واستدل بالآية ، لكنها رواية منقطعة ليست ثابتة عنه ، والآية لا تدل على لعن المعين  ، ولو كان كل ذنب لعن 
[32] فاعله ، يلعن المعين الذي فعله ؛ للعن جمهور  [ ص: 574 ] الناس . وهذا بمنزلة الوعيد المطلق ، لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه ، وهكذا اللعن . وهذا بتقدير أن يكون يزيد  فعل ما يقطع به الرحم . 
ثم إن هذا تحقق في كثير من بني هاشم  الذين تقاتلوا من العباسيين  والطالبيين  ، فهل يلعن هؤلاء كلهم ؟ وكذلك من ظلم قرابة له لا سيما وبينه وبينه عدة آباء ، أيلعنه بعينه ؟ ثم إذا لعن هؤلاء لعن كل من شمله ألفاظه ، وحينئذ فيلعن جمهور المسلمين . 
وقوله تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم  أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم   ) [ سورة محمد : 23،22 ] وعيد عام في حق كل من فعل ذلك ، وقد فعل بنو هاشم  بعضهم ببعض أعظم مما فعل يزيد   . 
فإن قيل بموجب هذا لعن 
[33] ما شاء الله من بني هاشم   : العلويين  والعباسيين  وغيرهم من المؤمنين . 
				
						
						
