الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قلت : وابن عباس وطائفة أخرى رأوا إقرارها على الصفة التي كانت عليها زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها كذلك . ثم إنه لما قتل ابن الزبير رأى عبد الملك أن تعاد [ كما كانت ]

                  [1] لاعتقاده أن ما فعله ابن الزبير لا مستند له فيه ، ولما بلغه الحديث ود أنه تركه ، فلما كانت خلافة الرشيد رحمه الله ، شاور مالك بن أنس في أن يفعل كما فعل ابن الزبير ، فأشار عليه مالك بن أنس

                  [2] أن لا يفعل ذلك ، وقيل عن الشافعي : إنه رجح فعل ابن الزبير .

                  وكل من الأمراء والعلماء الذين رأوا هذا وهذا معظمون للكعبة مشرفون لها ، إنما يقصدون

                  [3] ما يرونه أحب إلى الله ورسوله ، وأفضل عند الله [ ص: 583 ] ورسوله ، ليس فيهم من يقصد إهانة الكعبة

                  [4] . ومن قال : إن أحدا من خلق الله قصد رمي الكعبة بمنجنيق أو عذرة

                  [5] فقد كذب ، فإن هذا لم يكن لا في الجاهلية ولا في الإسلام

                  [6] . والذين كانوا [ كفارا ]

                  [7] لا يحترمون الكعبة ، كأصحاب الفيل والقرامطة ، لم يفعلوا هذا ، فكيف بالمسلمين الذين كانوا يعظمون الكعبة ؟ !

                  [8] .

                  وأيضا فلو قدر - والعياذ بالله - أن أحدا يقصد إهانة الكعبة ، وهو قادر على ذلك ، لم يحتج إلى رميها بالمنجنيق ، بل يمكن تخريبها بدون ذلك ، كما تخرب في آخر الزمان إذا أراد الله أن يقيم القيامة فيخرب بيته ، ويرفع كلامه من الأرض ، فلا يبقى في المصاحف والقلوب قرآن ، ويبعث ريحا طيبة فتقبض

                  [9] روح كل مؤمن ومؤمنة ، ولا يبقى في الأرض خير بعد ذلك .

                  وتخريبها بأن يسلط عليها ذو السويقتين ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة "

                  [10] .

                  [ ص: 584 ] وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا "

                  [11] .

                  وقال الله تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) [ سورة المائدة : 97 ] قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا . وقال : لو اجتمع الناس على أن لا يحجوا لسقطت السماء على الأرض . ذكره الإمام أحمد في " المناسك "

                  [12] . ولهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد : إن الحج كل عام فرض على الكفاية .

                  والمنجنيق إنما يرمى به ما لا يقدر عليه

                  [13] بدونه ، كما رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بالمنجنيق ، لما دخلوا حصنهم وامتنعوا فيه ، والذين حاصروا ابن الزبير لما استجار هو وأصحابه بالمسجد الحرام رموهم بالمنجنيق ، حيث لم يقدروا عليهم بدونه . ولما قتل ابن الزبير دخلوا بعد هذا إلى المسجد الحرام فطافوا بالكعبة ، وحج الحجاج بن يوسف ذلك العام بالناس ، وأمره عبد الملك بن مروان أن لا يخالف ابن عمر في أمر الحج .

                  فلو كان قصدهم بالكعبة شرا لفعلوا ذلك بعد أن تمكنوا منها ، كما أنهم لما تمكنوا من ابن الزبير قتلوه .

                  [ ص: 585 ] وأما الحديث الذي رواه وقوله

                  [14] : " إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار ، وقد شدت

                  [15] يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوذ أهل

                  [16] النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وهو فيها خالد
                  " إلى آخره .

                  فهذا من أحاديث الكذابين الذين لا يستحيون من المجازفة في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

                  [17] ، فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار ؟ أو يقدر نصف عذاب أهل النار ؟ وأين عذاب آل فرعون [ وآل المائدة ]

                  [18] والمنافقين وسائر الكفار ؟ وأين قتلة

                  [19] الأنبياء ، وقتلة السابقين الأولين ؟ .

                  وقاتل عثمان أعظم إثما من قاتل الحسين . فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة ، الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا ، وأنه كان يجوز قتله ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان " رواه مسلم

                  [20] .

                  وأهل السنة والجماعة يردون غلو هؤلاء وهؤلاء ، ويقولون : إن الحسين [ ص: 586 ] قتل مظلوما شهيدا ، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين . وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يأمر فيها بقتال

                  [21] المفارق للجماعة لم تتناوله ; فإنه - رضي الله عنه - لم يفرق

                  [22] الجماعة ، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع

                  [23] إلى بلده ، أو [ إلى ] الثغر

                  [24] ، أو إلى يزيد ، داخلا في الجماعة ، معرضا عن تفريق الأمة

                  [25] . ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ؟ ! ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه ، فضلا عن أسره وقتله .

                  وكذلك قوله : اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي .

                  كلام لا ينقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينسبه إليه إلا جاهل

                  [26] . فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ، ولو كان الرجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى بما يبيح قتله أو قطعه ، كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين .

                  [ ص: 587 ] كما ثبت عنه

                  [27] في الصحيح أنه قال : " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم

                  [28] الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
                  "

                  [29] .

                  فقد أخبر

                  [30] أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه ، فلو زنى الهاشمي وهو محصن رجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين ، ولو قتل نفسا عمدا عدوانا محضا لجاز قتله به ، وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم .

                  فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المسلمون تتكافأ دماؤهم "

                  [31] فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحرارا مسلمين باتفاق الأمة ، فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق ، فكيف [ ص: 588 ] يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم .

                  فإن الله حرم قتل النفس إلا بحق ، فالمقتول بحق لم يشتد غضب الله على من قتله ، سواء كان المقتول هاشميا أو غير هاشمي ؟ .

                  وإن قتل بغير حق ، ومن يقتل [32] مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيه بنو هاشم وغيرهم ، فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق يقدح في نبوته ، أو جاهل لا يعلم العدل الذي بعث به - صلى الله عليه وسلم - .

                  وكذلك قوله : " من آذاني في عترتي " فإن إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرام في عترته وأمته وسنته وغير ذلك

                  [33] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية