قلت : وطائفة أخرى رأوا إقرارها على الصفة التي كانت عليها زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها كذلك . ثم إنه لما قتل وابن عباس رأى ابن الزبير أن تعاد [ كما كانت ] عبد الملك
[1] لاعتقاده أن ما فعله لا مستند له فيه ، ولما بلغه الحديث ود أنه تركه ، فلما كانت خلافة ابن الزبير الرشيد رحمه الله ، شاور في أن يفعل كما فعل مالك بن أنس ، فأشار عليه ابن الزبير مالك بن أنس
[2] أن لا يفعل ذلك ، وقيل عن : إنه رجح فعل الشافعي . ابن الزبير
وكل من الأمراء والعلماء الذين رأوا هذا وهذا معظمون للكعبة مشرفون لها ، إنما يقصدون
[3] ما يرونه أحب إلى الله ورسوله ، وأفضل عند الله [ ص: 583 ] ورسوله ، ليس فيهم من يقصد إهانة الكعبة
[4] . ومن قال : إن أحدا من خلق الله قصد رمي الكعبة بمنجنيق أو عذرة
[5] فقد كذب ، فإن هذا لم يكن لا في الجاهلية ولا في الإسلام
[6] . والذين كانوا [ كفارا ]
[7] لا يحترمون الكعبة ، كأصحاب الفيل والقرامطة ، لم يفعلوا هذا ، فكيف بالمسلمين الذين كانوا يعظمون الكعبة ؟ !
[8] .
وأيضا فلو قدر - والعياذ بالله - أن أحدا يقصد إهانة الكعبة ، وهو قادر على ذلك ، لم يحتج إلى رميها بالمنجنيق ، بل يمكن تخريبها بدون ذلك ، كما إذا أراد الله أن يقيم القيامة فيخرب بيته ، ويرفع كلامه من الأرض ، فلا يبقى في المصاحف والقلوب قرآن ، ويبعث ريحا طيبة فتقبض تخرب في آخر الزمان
[9] روح كل مؤمن ومؤمنة ، ولا يبقى في الأرض خير بعد ذلك .
وتخريبها بأن يسلط عليها ذو السويقتين ، كما في الصحيحين عن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة الحبشة " يخرب الكعبة ذو السويقتين من
[10] .
[ ص: 584 ] وروى عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن عباس " كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا
[11] .
وقال الله تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) [ سورة المائدة : 97 ] قال - رضي الله عنهما - : لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا . وقال : لو اجتمع الناس على أن لا يحجوا لسقطت السماء على الأرض . ذكره ابن عباس في " المناسك " الإمام أحمد
[12] . ولهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي : إن الحج كل عام فرض على الكفاية . وأحمد
والمنجنيق إنما يرمى به ما لا يقدر عليه
[13] بدونه ، كما أهل الطائف بالمنجنيق ، لما دخلوا حصنهم وامتنعوا فيه ، والذين حاصروا رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استجار هو وأصحابه ابن الزبير بالمسجد الحرام رموهم بالمنجنيق ، حيث لم يقدروا عليهم بدونه . ولما قتل دخلوا بعد هذا إلى ابن الزبير المسجد الحرام فطافوا بالكعبة ، وحج ذلك العام بالناس ، وأمره الحجاج بن يوسف أن لا يخالف عبد الملك بن مروان في أمر الحج . ابن عمر
فلو كان قصدهم بالكعبة شرا لفعلوا ذلك بعد أن تمكنوا منها ، كما أنهم لما تمكنوا من قتلوه . ابن الزبير
[ ص: 585 ] وأما الحديث الذي رواه وقوله
[14] : " إن قاتل في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار ، وقد شدت الحسين
[15] يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوذ أهل
[16] النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وهو فيها خالد " إلى آخره .
فهذا من أحاديث الكذابين الذين لا يستحيون من المجازفة في - صلى الله عليه وسلم - الكذب على رسول الله
[17] ، فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار ؟ أو يقدر نصف عذاب أهل النار ؟ وأين عذاب آل فرعون [ وآل المائدة ]
[18] والمنافقين وسائر الكفار ؟ وأين قتلة
[19] الأنبياء ، وقتلة السابقين الأولين ؟ .
أعظم إثما من قاتل عثمان الحسين . فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو وقاتل الناصبة ، الذين يزعمون أن كان خارجيا ، وأنه كان يجوز قتله ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحسين " رواه من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان مسلم
[20] .
[ ص: 586 ] قتل مظلوما شهيدا ، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين الحسين . وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يأمر فيها بقتال وأهل السنة والجماعة يردون غلو هؤلاء وهؤلاء ، ويقولون : إن
[21] لم تتناوله ; فإنه - رضي الله عنه - لم يفرق المفارق للجماعة
[22] الجماعة ، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع
[23] إلى بلده ، أو [ إلى ] الثغر
[24] ، أو إلى يزيد ، داخلا في الجماعة ، معرضا عن تفريق الأمة
[25] . ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة إلى ذلك ؟ ! ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه ، فضلا عن أسره وقتله . الحسين
وكذلك قوله : اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي .
كلام لا ينقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينسبه إليه إلا جاهل
[26] . فإن العاصم لدم الحسن وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ، ولو كان الرجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى بما يبيح قتله أو قطعه ، كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين . والحسين
[ ص: 587 ] كما ثبت عنه
[27] في الصحيح أنه قال : "
[28] الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وايم الله لو أن سرقت لقطعت يدها فاطمة بنت محمد " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
[29] .
فقد أخبر
[30] أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه ، فلو زنى الهاشمي وهو محصن رجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين ، ولو قتل نفسا عمدا عدوانا محضا لجاز قتله به ، وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم .
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " المسلمون تتكافأ دماؤهم
[31] فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحرارا مسلمين باتفاق الأمة ، فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق ، فكيف [ ص: 588 ] يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم .
فإن الله حرم قتل النفس إلا بحق ، فالمقتول بحق لم يشتد غضب الله على من قتله ، سواء كان المقتول هاشميا أو غير هاشمي ؟ .
وإن قتل بغير حق ، [32] مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ومن يقتل . فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيه بنو هاشم وغيرهم ، فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق يقدح في نبوته ، أو جاهل لا يعلم العدل الذي بعث به - صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك قوله : " من آذاني في عترتي " فإن وغير ذلك إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرام في عترته وأمته وسنته
[33] .