وأما من قال منهم - بقيام الإرادات المتعاقبة به كأبي البركات وأمثاله - فهؤلاء يقولون : إنه موجب بذاته للأفلاك ، وموجب للحوادث المتعاقبة فيه بما يقوم به من الإرادات المتعاقبة .
فيقال لهؤلاء أولا من جنس ما قيل لإخوانهم ، والحجة إليهم أقرب ، فإنهم أقرب إلى الحق ، فيقال لهم : [1] ، فلماذا لا يجوز أن تكون الأفلاك حادثة بعد أن لم تكن لما يقوم به من الإرادات المتعاقبة ؟ . إذا جاز أن يحدث الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم به من الإرادات [ شيئا بعد شيء ]
[ ص: 220 ] . وقد تفطن لهذا طائفة من حذاق هؤلاء [2] النظار - كالأثير الأبهري [3] - فقال : يجوز أن يحدث جميع ذلك لما يقوم به من إرادة [4] ، وإن كانت مسبوقة بإرادة أخرى لا إلى غاية .
ويقال لهم أيضا : لم لا يجوز أن تكون السماوات والأرض بأنفسها مسبوقة [5] بمادة [6] بعد مادة لا إلى غاية ، وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن ، وإن كان كل حادث قبله حادث ، كما يقوله من يقوله في الأمور القائمة بذاته من إرادات ، أو غيرها فإن تسلسل الحوادث ودوامها إن كان ممكنا ، فهذا ممكن ، وإن كان ممتنعا لزم امتناع قدم الفلك فعلى التقديرين لا يلزم قدم الفلك ، ولا حجة لكم على قدمه مع أن الرسل قد أخبرت بأنه مخلوق ، فما الذي أوجب [ مخالفة ] [7] ما اتفقت عليه الرسل وأهل الملل وأساطين الفلاسفة القدماء من غير أن يقوم على مخالفته دليل عقلي أصلا . ؟ .
إذ غاية ما يقولونه إنما هو إثبات قدم نوع الفعل لا عينه ، فإن جميع ما يحتج به القائلون بقدم العالم لا يدل [8] على قدم شيء بعينه من [ ص: 221 ] العالم [9] ، بل إذا قالوا : اعتبار أسباب الفعل - وهو الفاعل والغاية والمادة ، والصورة - يدل على قدم الفعل ، فإنما يدل ذلك - إن دل - على قدم نوعه لا عينه ، وقدم نوعه ممكن مع القول بموجب سائر الأدلة العقلية الدالة على أن الفعل لا يكون إلا حادثا - وإن كان حادثا شيئا بعد شيء - وأن الفاعل مطلقا ، أو الفاعل بالاختيار لا يكون فعله إلا حادثا ، ولو كان شيئا بعد شيء ، وأن دوام الحوادث لمخلوق معين قديم أزلي ممتنع ، وكذلك المفعول المعين المقارن لفاعله [10] لم يزل معه ممتنع .
مع أن الرسل قد أخبرت بأن الله تعالى خالق كل شيء ، وأن الله خلق [11] السماوات والأرض . [12] في ستة أيام ، فكيف عدلتم عن صحيح المنقول وصريح المعقول إلى ما يناقضه ، بل أثبتم قدم ما لا يدل دليل إلا على حدوثه لا على قدمه .
ثم يقال لهؤلاء أيضا : إذا كان الرب فاعلا بإراداته ، كما سلمتموه ، وكما دلت عليه الأدلة ، بل إذا كان فاعلا كما سلمتموه أنتم وإخوانكم القائلون بأنه قديم عن موجب قديم وموجبه فاعله ، فلا يعقل فاعل مفعوله مقارن له لم يتقدم عليه بزمان ابتداء [13] ، بل تقدير هذا في العقل تقدير لا يعقل .
[ ص: 222 ] . وأنتم شنعتم [14] على مخالفيكم لما أثبتوا حدوثا في غير زمان ، وقلتم هذا لا يعقل ، فيقال لكم : ولا يعقل أيضا فعل في غير زمان [15] أصلا . ولا يعقل مفعول [16] مقارن لفاعله لم يتقدم عليه بزمان أصلا .