وما ذكرتموه من أن بالذات أمر معقول - وهو تقدم العلة على المعلول - أمر قدرتموه في الأذهان لا وجود له في الأعيان ، فلا يعقل في الخارج فاعل يقارنه التقدم [1] مفعوله سواء سميتموه علة تامة ، أو لم تسموه ، وما تذكرونه من كون الشمس فاعلة للشعاع ، وهو مقارن لها في الزمان [2] مبني على مقدمتين : على أن مجرد الشمس هي الفاعلة ، وأنه مقارن لها بالزمان ، وكلتا المقدمتين باطلة ، فمعلوم أن الشعاع لا يكفي في حدوثه مجرد الشمس ، بل لا بد من حدوث جسم قابل له ، ولا بد مع ذلك من زوال الموانع .
وأيضا : فلا نسلم لكم أن الشعاع مقارن للشمس في الزمان ، بل قد يقال : إنه متأخر عنها ، ولو [3] بجزء يسير من الزمان ، وهكذا ما تمثلون به من قول القائل حركت يدي فتحرك المفتاح أو كمي مبني على هاتين المقدمتين الباطلتين ، فمن الذي يسلم أن حركة اليد هي العلة التامة لحركة الكم ، والمفتاح ؟ بل الفاعل للحركتين واحد لكن تحريكه للثاني [ ص: 223 ] مشروط بتحريكه للأول ، فالحركة الأولى شرط في الثانية لا فاعلة لها ، والشرط يجوز أن يقارن المشروط ، وإذا قدر أن أحدهما فاعل للآخر لم يسلم أنه مقارن له في الزمان ، بل يعقل تحريك الإنسان لما قرب منه قبل تحريكه لما بعد منه ، فتحريكه لشعر جلده متقدم على تحريكه لباطن ثيابه ، وتحريكه لباطن ثيابه متقدم على تحريكه لظاهرها ، وتحريكه لقدمه متقدم [4] على تحريكه لنعله ، وتحريكه ليده متقدم [5] على تحريكه لكمه .
والمقارنة يراد بها شيئان [6] ، أحدهما : الاتصال كاتصال أجزاء الزمان وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء ، فكل [7] واحد [8] يكون متصلا بالآخر يقال : إنه مقارن له لاتصاله به - وإن كان عقبه - ويقال أيضا لما هو معه من غير تقدم في الزمان [9] أصلا . ومعلوم أن الأجسام المتصل بعضها ببعض إذا كان مبدأ الحركة من أحد طرفيها ، فإن الحركة تحصل فيها شيئا بعد شيء ، فهي متصلة مقترنة بالاعتبار الأول ، ولا يقال : إنها مقترنة في الزمان بالمعنى الثاني . .
ومبدأ ما يحركه الإنسان منه ، فإذا حرك يده تحرك الكم المتصل بها ، وتحرك ما اتصل بالكم لكن حركة اليد قبل حركة الكم مع اتصالها ، وهكذا سائر النظائر .
[ ص: 224 ] . والإنسان إذا حرك حبلا بسرعة ، فإنه تتصل الحركة بعضها ببعض مع العلم بأن الطرف الذي يلي يده تحرك قبل الطرف الآخر ، ولا يعقل [10] قط فعل من الأفعال إلا حادثا شيئا بعد شيء لا يعقل فعل مقارن لفاعله في الزمان أصلا .
[ وإذا قيل ] : [11] إن الفاعل لم يزل فاعلا كان المعقول منه أنه لم يزل يحدث شيئا بعد شيء لم يعقل منه أنه لم يزل مفعوله المعين مقارنا له لم يتقدم عليه بزمان أصلا .
وأيضا : فالرب تعالى إذا لم يحدث شيئا إلا بقدرته ، ومشيئته [12] ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) [ سورة يس : 82 ] فلا بد أن يريد الفعل قبل أن يفعله ، ولا بد أن يكون الفعل قبل المفعول ، وإن كانت الإرادة والفعل موجودين عند وجود المفعول ، كما يقول [13] أهل السنة : إن القدرة لا بد أن تكون مع الفعل .
لكن إذا قيل : لم يزل المفعول لازما للفاعل لم يكن فرق بين الصفة القائمة به وبين المفعول المخلوق [ له ] [14] ، فلا يكون فرق بين حياته وبين مخلوقاته ، بل ولا بين الخالق ، والمخلوق .
والعقلاء يعلمون الفرق بين ما يفعله الفاعل - لا سيما ما يفعله [ ص: 225 ] باختياره - وبين ما هو صفة له من لوازم ذاته ، ويعلمون أن لون [15] الإنسان وطوله وعرضه ليس مرادا له ولا مقدورا له ولا مفعولا له ; لأنه لازم له لا يدخل تحت قدرته ومشيئته [16] ، وأما أفعاله الداخلة تحت قدرته ومشيئته [17] فهي أفعال له مقدورة مرادة ، فإذا قدر أن هذه لازمة لذاته كاللون [18] ، والقدر كان هذا غير معقول ، بل كان هذا مما يعلم [ به ] [19] أن هذه ليست أفعالا له ، ولا مفعولات ، بل صفات [ له ] [20] .
وأيضا ، فإذا كان العالم لم يخل من نوع الحوادث - كما سلمتموه ، وكما يقوم عليه البرهان ، بل كما اتفق عليه جماهير العقلاء - لم يمكن [21] فعل العالم بدون الحوادث لامتناع وجود الملزوم بدون اللازم ، ولم يمكن أن يكون ملزوم الحوادث المصنوع[22] المفعول قديما ، وكل جزء من أجزاء العالم يمتنع أن يخلو من الحوادث .
من أبطل الكلام لو كان للعقول وجود في الخارج [ فكيف ولا حقيقة لها في الخارج ] وما يدعيه هؤلاء المتفلسفة من أن العقول خالية عن الحوادث [23] وذلك أن معلول [24] العقول عندهم - وهي النفوس [ ص: 226 ] الفلكية أو الأفلاك أو ما [25] شئت من العالم - مستلزم للحوادث ، فإن النفوس والأفلاك لا يمكن خلوها من الحوادث عندهم ، ولو خلت لم تكن نفوسا ، بل تكون عقولا [26] .
وحينئذ فإذا كان المعلول لم يخل عن الحوادث لزم أن تكون علته لم تخل من الحوادث ، وإلا لزم حدوث الحوادث في المعلول بلا علة ، وهو ممتنع ، فإنه لا بد للحوادث من سبب تحدث عنده [27] ، فإن لم يكن في علة النفوس والأفلاك ما يقتضي ذلك بطل أن تكون علة لها لامتناع صدور الحوادث المختلفة عن علة بسيطة على حال واحدة [28] .
وهذا مما استدل به أئمتهم [29] ، وغير أئمتهم القائلون بأن [30] الرب تقوم به الأمور الاختيارية قالوا : لأن المفعولات فيها من التنوع والحدوث ما يوجب أن يكون سبب ذلك عن الفاعل ، وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث ، وإذا كان كل جزء من [ أجزاء ] [31] العالم ملزوما للحوادث ، وهو مصنوع ، فإبداعه بدون الحوادث ممتنع ، وإحداث [ الحوادث ] [32] شيئا بعد شيء مع قدم ذات محلها المعلول ممتنع ; لأن القديم الموجب [ ص: 227 ] لذاته لا يوجبها إلا مع الحوادث ، فلا يكون موجبا لها قط إلا مع فعل [33] حادث يقوم به ، وإذا كان لا يفعل إلا بفعل حادث امتنع أن يكون المفعول ( 2 قديما ; لأن قدم المفعول 2 ) [34] يقتضي قدم الفعل بالضرورة .
وإذا قيل : فعل الملزوم قديم ، وفعل الحوادث حادث شيئا بعد شيء لزم أن يقوم بذات الفاعل فعلان : أحدهما : فعل للذات القديمة ، وهو قديم بقدمها دائم بدوامها ، والآخر : أفعال لحوادثها ، وهي حادثة شيئا بعد شيء ، فتكون ذات الفاعل فاعلة للملزوم بفعل ، وفاعلة للازم بفعل آخر أو أفعال ، وفعلها للملزوم يوجب فعلها للازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم ، وإرادتها للملزوم توجب إرادتها للازم ; لأن المريد للملزوم العالم بأن هذا يلزمه إن لم يرد اللازم لكان إما غير مريد لوجود الملزوم ، وإما غير عالم بالملزوم .
والرب تعالى مريد للملزوم [35] ، وعالم بالملزوم ، فيمتنع أن يريد الملزوم دون اللازم ، وهذا وإن كان لا بد منه فيما يريد إحداثه ، ويريد أن يحدث له حوادث متعاقبة ، كما يحدث الإنسان ويحدث له أحوالا متجددة شيئا بعد شيء ، ويحدث الأفلاك ، ويحدث حوادثها شيئا بعد شيء لكنه إذا فرض أن الملزوم غير محدث له لم يعقل كونه مفعولا له ، ولا يعقل [ أيضا ] [36] كونه معلولا له قديما بقدمه ، فإن المعلول له صفات ومقادير [ ص: 228 ] مختصة به ، والعلة المجردة عن الأحوال الاختيارية إنما تستلزم ما يكون من لوازمها ، وإنما يكون من لوازمها ما يناسبها مناسبة المعلول لعلته ، والمعلول فيه من الأقدار والأعداد والصفات المختلفة ما يمتنع [37] وجود ما يشابه ذلك في علته ، فتمتنع المناسبة ، وإذا امتنعت المناسبة امتنع كونه علة له .
وأيضا ، فإذا قدر أنها موجب أزلي للمعلول الأزلي كان إيجابها له إما بالذات مجردة عن أحوالها المتعاقبة ، وإما مع أحوالها ، والأول ممتنع ، فإن خلو الذات [38] عن لوازمها ممتنع ، والثاني ممتنع ; لأن الذات المستلزمة لصفاتها وأحوالها لا تفعل إلا بصفاتها ، وأحوالها ، والأحوال المتعاقبة يمتنع أن يكون لها معلول معين قديم أزلي ، ويمتنع أن تكون شرطا في المعلول الأزلي ; لأن المعلول الأزلي لا بد أن يكون مجموع علة [39] أزلية ، والأحوال المتعاقبة لا يكون مجموعها ولا شيء منها أزليا [40] ، . وإنما الأزلي هو النوع القديم الذي يوجد شيئا فشيئا ، وهذا يمتنع أن يكون شرطا في الأزل .
وهذا كما لو قيل : إن الفلك المتحرك دائما [41] يوجب ذاتا أزلية متحركة ، [ أو غير متحركة ، فإن هذا ممتنع عندهم وعند غيرهم ، فإن ما كان فعله مشروطا بالحركة يمتنع أن يكون مفعوله المعين قديما ، ولو قدر أن [ ص: 229 ] المتحرك الأزلي يوجب متحركا أزليا لم يوجب ] [42] إلا ما يناسبه ، وأما المتحركات المختلفة في قدرها وصفاتها وحركاتها فيمتنع صدورها عن متحرك حركة متشابهة .
وأيضا ، فإن المفعول المخلوق مفتقر إلى الفاعل من جميع الوجوه ليس له شيء إلا من الفاعل ، والفاعل الخالق غني عنه من جميع الوجوه ، واقترانهما [43] أزلا وأبدا يمنع كون أحدهما فاعلا غنيا والآخر مفعولا فقيرا ، بل يمنع كونه متولدا عنه ، ويوجب كونه صفة له ، فإن الولد وإن تولد عن والده بغير قدرته [ وإرادته ] [44] ، واختياره ومشيئته [45] ، فهو حادث عنه ، وأما كون المتولد عن الشيء ملازما للمتولد عنه مقارنا له في وجوده ، فهذا أيضا لا يعقل .
ولهذا كان قول من قال من مشركي العرب : إن الملائكة أولاد الله وإنهم بناته ، مع ما في قولهم من الكفر والجهل [46] ، فقول هؤلاء أكفر منه من وجوه ، فإن أولئك يقولون : إن الملائكة حادثة كائنة بعد أن لم تكن ، وكانوا يقولون : إن [47] الله خلق السماوات والأرض ولم يكونوا يقولون بقدم العالم .
وأما هؤلاء فيقولون : إن العقول والنفوس - التي يسمونها الملائكة ، [ ص: 230 ] [ والسماوات ] [48] - قديمة بقدم الله لم يزل الله والدا لها ، فهم مع قولهم بأن الله ولدها يقولون : لم تزل معه ، وهذا أمر لا يعقل لا في الولد ولا في الفعل ، فكان قولهم مخالفا لما تعرفه العقول من جميع الجهات ، وسر الأمر أنهم جمعوا بين النقيضين ، فأثبتوا فعلا وصنعا وإبداعا [49] من غير إبداع ولا صنع ولا فعل .
وقولهم في فعل الرب كقولهم في ذاته وصفاته ، فأثبتوا واجب الوجود [50] ، ووصفوه بما يستلزم أن يكون ممتنع الوجود ، وأثبتوا صفاته ، وقالوا فيها ما يوجب نفي صفاته ، فهم دائما يجمعون في أقوالهم بين النقيضين ، وذلك أنهم في الأصل معطلة محضة ، ولكن أثبتوا ضربا من الإثبات ، وأرادوا أن يجمعوا بين الإثبات والتعطيل ، فلزمهم التناقض .
ولهذا يمتنعون من أن يوصف بنفي أو إثبات [51] ، فمنهم من يقول : لا يقال : هو موجود ( 5 ولا معدوم ولا حي ولا ميت ، وقد يقولون : لا يقال : هو موجود ولا يقال 5 ) : [52] ليس بموجود ، ولا يقال : هو حي ، ولا يقال : ليس بحي [53] ، فيرفعون النقيضين جميعا ، أو يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ورفع النقيضين ممتنع ، كما أن جمع النقيضين ممتنع ، والامتناع من إثبات أحد النقيضين هو الإمساك عن النفي والإثبات ، [ ص: 231 ] والحق ، والباطل ، وذلك جهل وامتناع عن معرفة الحق والتكلم به .
ومدار ذلك على أن الله لا يعرف ولا يذكر ولا يمجد ولا يعبد ، وهو من أنواع السفسطة ، فإن السفسطة منها ما هو نفي للحق ، ومنها ما هو نفي للعلم به ، ومنها ما هو تجاهل ، وامتناع عن إثباته ، ونفيه ، ويسمى [ أصحاب هذا القول ] اللا أدرية [54] لقولهم : لا ندري [55] .
كما قال فرعون : ( وما رب العالمين ) [ سورة الشعراء : 23 ] متجاهلا أنه لا يعرفه ، وأنه منكور لا يعرف ، فخاطبه موسى بما بين له أنه أعرف من أن ينكر ، وأعظم من أن يجحد [56] ، فقال : ( رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين ) [ سورة الشعراء : 24 - 26 ] .
وكذلك قالت الرسل لمن قال من قومهم : ( إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) [ سورة إبراهيم : 9 - 10 ] إلى أمثال ذلك ، وهذا المقام مبسوط في موضعه ، ولكن نبهنا عليه هنا لاتصال الكلام به .
والمقصود هنا أنه ، كما سنبين امتناع ذلك على القول بامتناع حدوث [ ص: 232 ] الحوادث بلا سبب ، فيلزم القول بامتناع قدمه إذا جوزنا حدوث الحوادث بلا سبب حادث امتنع القول بقدم العالم [57] على التقديرين ، فيلزم امتناع القول بقدمه على تقدير النقيضين ، وهو المطلوب .