وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29614_29613معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين ، المختلفين في أصول الدين . ولهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29418كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام ; فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل ، وتكذيب بحق
[1] ، ومخالفة الكتاب
[2] والسنة ، فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال . ولم يذم السلف من كان كلامه حقا ، [ فإن ما كان حقا ]
[3] فإنه هو الذي جاء به الرسول ، ( وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول )
[4] ، ومع هذا فيستفاد من كلامهم
[5] نقض بعضهم على بعض ، وبيان فساد قوله ، فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل
[6] ، وكل طائفة تقصد بيان بطلان
[7] قول
[8] الأخرى ، فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب .
وهذا مما مدح به
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ; فإنه بين من فضائح
المعتزلة وتناقض
[ ص: 277 ] أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره ، لأنه كان منهم ، وكان قد درس الكلام على
أبي علي الجبائي أربعين سنة ، وكان ذكيا ، ثم إنه رجع عنهم ، وصنف في الرد عليهم ، ونصر في الصفات طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب ، لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ، ولم يعرف غيرها ، فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث ، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم ، وتفسير السلف للقرآن . والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا
[9] .
ولهذا يذكر
[10] في المقالات مقالة
المعتزلة مفصلة : يذكر
[11] قول كل واحد منهم ، وما بينهم من النزاع في الدق والجل ، كما يحكي
ابن [12] أبي زيد [13] مقالات أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، وكما يحكي
أبو الحسن القدوري [14] اختلاف أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة . ويذكر أيضا مقالات
الخوارج والروافض [15] ، لكن نقله لها
[16] من كتب أرباب المقالات ، لا عن مباشرة
[ ص: 278 ] منه للقائلين ، ولا عن خبرة بكتبهم ، ولكن فيها تفصيل عظيم ، ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ، ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب
[17] .
فإذا جاء إلى
[18] مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا ، يلقى
[19] أكثره عن
nindex.php?page=showalam&ids=14451زكريا بن يحيى الساجي [20] ، وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية
بغداد ونحوهم . وأين العلم المفصل من العلم المجمل ؟
[21] وهو يشبه
[22] من بعض الوجوه ، علمنا بما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - تفصيلا
[23] ، وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا ، لما نقله الناس عن
[24] التوراة والإنجيل ، وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه ، واختلاف أهله وأدلته ، بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر
[25] ، فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة .
[ ص: 279 ] فهكذا
[26] معرفته بمذهب أهل السنة والحديث ، مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك ، وهو أعرف به من جميع أصحابه : من
القاضي أبي بكر ،
وابن فورك ،
وأبي إسحاق . وهؤلاء أعلم به من
أبي المعالي وذويه ، ومن
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشهرستاني ، [ ولهذا كان ما يذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشهرستاني ]
[27] من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ; فإن
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها .
وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث ، وليس هو من علماء الحديث . أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين ، وليس هو من أئمة الفقه . والمقرئ الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب ، وليس هو من أئمة النحاة . والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن ، وليس هو من أئمة القراء ، ونظائر هذا متعددة .
والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الاختلاف في الكتاب . وهذا الاختلاف القولي ، وأما الاختلاف العملي وهو الاختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الاختلاف .
والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم
[28] يدخلون في النوعين . والملوك الذين يتقاتلون
[29] على محض الدنيا يدخلون في الثاني . والذين يتكلمون في العلم ، ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ، ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ، ولا بلسان ، هؤلاء هم أهل العلم ، وهؤلاء خطؤهم مغفور
[ ص: 280 ] لهم وليسوا مذمومين ، إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور ، فيكون ذلك من ذنوبهم ; فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره ، وقد شرع الله - تعالى - أن نسأله ذلك في كل صلاة ، وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير ، وكل أحد محتاج إلى الدعاء به ، فلهذا أوجبه الله - تعالى - على العبد في كل صلاة .
فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا ، مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق ، فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده ، فيثبته أو ينفيه ، ويحبه أو يبغضه ، ويأمر به أو ينهى عنه ، ويحمده أو يذمه . وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا ، أو سمع
[30] ذم الطائفة الفلانية مجملا ، وهو لا يعرف تفاصيل الأمور : من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ، ومن كان متوسطا في الكلام ، لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ، ويقبله بعبارة
[31] ، ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث ، وفيها تلك المقالات التي كان يذمها ، فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم ، وقد ذكروها
[32] بعبارة أخرى ، أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك .
[ ص: 281 ] وهذا مما يوجد كثيرا ، والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء
[33] يعظم أئمة ، ويذم أقوالا ، قد يلعن قائلها أو يكفره ، وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ، ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل ، وكثير منها يكون قد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعرف ذلك .
فإن كان ممن قبلها من المتكلمين
[34] تقليديا ، فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم ، فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أئمتهم قلدهم ، وإن ظن أن الأئمة أجل قدرا وأعرف بالحق
[35] وأتبع للرسول قلدهم ، وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء
[36] الحديث بخلافه
[37] بقي في الحيرة ، وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض ، وليس عنده ما يبني عليه ، وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما ; فإن التقليد لا يورث الجزم ، فإذا جزم بأن الرسول قاله ، وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق ، جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام .
وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض ، وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض ، هو من
[38] أنفع الأمور ; فإنه ما منهم إلا من قد
[39] فضل مقالته طوائف ، فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه
[ ص: 282 ] المقالة عرف فسادها ، فكان في ذلك نهي عما فيها من المنكر والباطل .
وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك
[40] ، فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل ، فيتقي الباطل الذي معهم . ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول : إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين ، وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء ، وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة ، إذ هداه الصراط المستقيم ، وجنبه صراط أهل البغي والضلال .
وإن لم يتبين له ، كان امتناعه من موافقة هؤلاء على ضلالهم ، وهؤلاء على ضلالهم ، نعمة في حقه ، واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا ، وأمسك عن الكلام في تلك المسألة ، وكانت من جملة ما لم يعرفه ; فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به ، وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام ، بل والعربية والطب وغير ذلك ، ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29614_29613مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ ، فَعِلْمٌ آخَرُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، الْمُخْتَلِفِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ . وَلِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29418كَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقِينَ عَلَى ذَمِّ أَهْلِ الْكَلَامِ ; فَإِنَّ كَلَامَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى تَصْدِيقٍ بِبَاطِلٍ ، وَتَكْذِيبٍ بِحَقٍّ
[1] ، وَمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ
[2] وَالسُّنَّةِ ، فَذَمُّوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ وَالضَّلَالِ . وَلَمْ يَذُمَّ السَّلَفُ مَنْ كَانَ كَلَامُهُ حَقًّا ، [ فَإِنَّ مَا كَانَ حَقًّا ]
[3] فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، ( وَهَذَا لَا يَذُمُّهُ السَّلَفُ الْعَارِفُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ )
[4] ، وَمَعَ هَذَا فَيُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِمْ
[5] نَقْضُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَبَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِ ، فَإِنَّ الْمُخْتَلِفِينَ كُلُّ كَلَامِهِمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ
[6] ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَقْصِدُ بَيَانَ بُطْلَانِ
[7] قَوْلِ
[8] الْأُخْرَى ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ .
وَهَذَا مِمَّا مُدِحَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ ; فَإِنَّهُ بَيَّنَ مِنْ فَضَائِحِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَتَنَاقُضِ
[ ص: 277 ] أَقْوَالِهِمْ وَفَسَادِهَا مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ ، وَكَانَ قَدْ دَرَسَ الْكَلَامَ عَلَى
أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَكَانَ ذَكِيًّا ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ ، وَصَنَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، وَنَصَرَ فِي الصِّفَاتِ طَرِيقَةَ
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَلَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَتَفْسِيرِ السَّلَفِ لِلْقُرْآنِ . وَالْعِلْمُ بِالسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا
[9] .
وَلِهَذَا يَذْكُرُ
[10] فِي الْمَقَالَاتِ مَقَالَةَ
الْمُعْتَزِلَةِ مُفَصَّلَةً : يَذْكُرُ
[11] قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ النِّزَاعِ فِي الدِّقِّ وَالْجِلِّ ، كَمَا يَحْكِي
ابْنُ [12] أَبِي زَيْدٍ [13] مَقَالَاتِ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ ، وَكَمَا يَحْكِي
أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ [14] اخْتِلَافَ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ . وَيَذْكُرُ أَيْضًا مَقَالَاتِ
الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ [15] ، لَكِنَّ نَقْلَهُ لَهَا
[16] مِنْ كُتُبِ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ ، لَا عَنْ مُبَاشَرَةٍ
[ ص: 278 ] مِنْهُ لِلْقَائِلِينَ ، وَلَا عَنْ خِبْرَةٍ بِكُتُبِهِمْ ، وَلَكِنْ فِيهَا تَفْصِيلٌ عَظِيمٌ ، وَيَذْكُرُ مَقَالَةَ ابْنِ كُلَّابٍ عَنْ خِبْرَةٍ بِهَا وَنَظَرٍ فِي كُتُبِهِ ، وَيَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عِدَّةِ كُتُبٍ
[17] .
فَإِذَا جَاءَ إِلَى
[18] مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ذَكَرَ أَمْرًا مُجْمَلًا ، يَلْقَى
[19] أَكْثَرَهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=14451زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ [20] ، وَبَعْضَهُ عَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ مِنْ حَنْبَلِيَّةِ
بَغْدَادَ وَنَحْوِهِمْ . وَأَيْنَ الْعِلْمُ الْمُفَصَّلُ مِنَ الْعِلْمِ الْمُجْمَلِ ؟
[21] وَهُوَ يُشْبِهُ
[22] مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، عَلِمْنَا بِمَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْصِيلًا
[23] ، وَعَلِمْنَا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُجْمَلًا ، لِمَا نَقَلَهُ النَّاسُ عَنْ
[24] التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَبِمَنْزِلَةِ عِلْمِ الرَّجُلِ الْحَنَفِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ أَوِ الْمَالِكِيِّ أَوِ الْحَنْبَلِيِّ بِمَذْهَبِهِ الَّذِي عَرَفَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ ، وَاخْتِلَافَ أَهْلِهِ وَأَدِلَّتِهِ ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ خِلَافِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ
[25] ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً مُجْمَلَةً .
[ ص: 279 ] فَهَكَذَا
[26] مَعْرِفَتُهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْرَفِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الِاخْتِلَافِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ : مِنَ
الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ،
وَابْنِ فُورَكٍ ،
وَأَبِي إِسْحَاقَ . وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ
أَبِي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ ، وَمِنَ
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشَّهْرَسْتَانِيِّ ، [ وَلِهَذَا كَانَ مَا يَذْكُرُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشَّهْرَسْتَانِيُّ ]
[27] مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ نَاقِصًا عَمَّا يَذْكُرُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ ; فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيَّ أَعْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ نَقْلًا وَتَوْجِيهًا .
وَهَذَا كَالْفَقِيهِ الَّذِي يَكُونُ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ . أَوِ الْمُحَدِّثُ الَّذِي يَكُونُ أَفْقَهَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ . وَالْمُقْرِئُ الَّذِي يَكُونُ أَخْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِالنَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّحَاةِ . وَالنَّحْوِيُّ الَّذِي يَكُونُ أَخْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِالْقُرْآنِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ ، وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ ذَمِّ الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ الْقَوْلِيُّ ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ الْعَمَلِيُّ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ بِالْيَدِ وَالسَّيْفِ وَالْعَصَا وَالسَّوْطِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاخْتِلَافِ .
وَالْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ
[28] يَدْخُلُونَ فِي النَّوْعَيْنِ . وَالْمُلُوكُ الَّذِينَ يَتَقَاتَلُونَ
[29] عَلَى مَحْضِ الدُّنْيَا يَدْخُلُونَ فِي الثَّانِي . وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا يَدْعُونَ إِلَى قَوْلٍ ابْتَدَعُوهُ ، وَيُحَارِبُونَ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُمْ لَا بِيَدٍ ، وَلَا بِلِسَانٍ ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَهَؤُلَاءِ خَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ
[ ص: 280 ] لَهُمْ وَلَيْسُوا مَذْمُومِينَ ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهُمْ هَوًى وَعُدْوَانٌ أَوْ تَفْرِيطٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ; فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِالْتِزَامِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي كُلِّ أُمُورِهِ ، وَقَدْ شَرَّعَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ نَسْأَلَهُ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَهُوَ أَفْضَلُ الدُّعَاءِ وَأَفْرَضُهُ وَأَجْمَعُهُ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَكُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إِلَى الدُّعَاءِ بِهِ ، فَلِهَذَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى الْعَبْدِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ .
فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ هُدِيَ هَدًى مُجْمَلًا ، مِثْلُ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ وَالرَّسُولَ حَقٌّ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ وَيَعْتَقِدُهُ ، فَيُثْبِتُهُ أَوْ يَنْفِيهِ ، وَيُحِبُّهُ أَوْ يُبْغِضُهُ ، وَيَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ ، وَيَحْمَدُهُ أَوْ يَذُمُّهُ . وَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ سَمِعَ ذَمَّ الْكَلَامِ مُجْمَلًا ، أَوْ سَمِعَ
[30] ذَمَّ الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ مُجْمَلًا ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الْأُمُورِ : مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْكَلَامِ ، لَمْ يَصِلْ إِلَى الْغَايَاتِ الَّتِي مِنْهَا تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا تَجِدُهُ يَذُمُّ الْقَوْلَ وَقَائِلَهُ بِعِبَارَةٍ ، وَيَقْبَلُهُ بِعِبَارَةٍ
[31] ، وَيَقْرَأُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَشُرُوحَ الْحَدِيثِ ، وَفِيهَا تِلْكَ الْمَقَالَاتُ الَّتِي كَانَ يَذُمُّهَا ، فَيَقْبَلُهَا مِنْ أَشْخَاصٍ أُخَرَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمْ ، وَقَدْ ذَكَرُوهَا
[32] بِعِبَارَةٍ أُخْرَى ، أَوْ فِي ضِمْنِ تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
[ ص: 281 ] وَهَذَا مِمَّا يُوجَدُ كَثِيرًا ، وَالسَّالِمُ مَنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ
[33] يُعَظِّمُ أَئِمَّةً ، وَيَذُمُّ أَقْوَالًا ، قَدْ يَلْعَنُ قَائِلَهَا أَوْ يُكَفِّرُهُ ، وَقَدْ قَالَهَا أُولَئِكَ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُعَظِّمُهُمْ ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَالُوهَا لَمَا لَعَنَ الْقَائِلَ ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا يَكُونُ قَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ قَبِلَهَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ
[34] تَقْلِيدِيًّا ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ مَنْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَعْظَمَ ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ حَقَّقُوا مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ أَئِمَّتُهُمْ قَلَّدَهُمْ ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَئِمَّةَ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْرَفُ بِالْحَقِّ
[35] وَأَتْبَعُ لِلرَّسُولِ قَلَّدَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرِفَ الْحُجَّةَ الْكَلَامِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ وَبَلَغَهُ أَنَّ أَئِمَّةً يُعَظِّمُهُمْ قَالُوا بِخِلَافِهِ أَوْ جَاءَ
[36] الْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ
[37] بَقِيَ فِي الْحَيْرَةِ ، وَإِنْ رَجَّحَ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ رَجَّحَ عَلَى مَضَضٍ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ قَلْبُهُ بِمَا يَعْرِفُ صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ جَزْمًا ; فَإِنَّ التَّقْلِيدَ لَا يُورِثُ الْجَزْمَ ، فَإِذَا جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ ، جَزَمَ بِذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ .
وَعِلْمُ الْإِنْسَانِ بِاخْتِلَافِ هَؤُلَاءِ وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ بَعْضُهُمْ فَسَادَ مَقَالَةِ بَعْضٍ ، هُوَ مِنْ
[38] أَنْفَعِ الْأُمُورِ ; فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ
[39] فَضَّلَ مَقَالَتَهُ طَوَائِفُ ، فَإِذَا عَرَفَ رَدَّ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى عَلَى هَذِهِ
[ ص: 282 ] الْمَقَالَةِ عَرَفَ فَسَادَهَا ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرِ وَالْبَاطِلِ .
وَكَذَلِكَ إِذَا عَرِفَ رَدَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ
[40] ، فَإِنَّهُ أَيْضًا يَعْرِفُ مَا عِنْدَ أُولَئِكَ مِنَ الْبَاطِلِ ، فَيَتَّقِي الْبَاطِلَ الَّذِي مَعَهُمْ . ثُمَّ مَنْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِجًا عَنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ بَعْضَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَبَعْضَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ ، إِذْ هَدَاهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَجَنَّبَهُ صِرَاطَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ .
وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ، كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ مُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ ، نِعْمَةً فِي حَقِّهِ ، وَاعْتَصَمَ بِمَا عَرَفَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُجْمَلًا ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ ، وَأَنْتَ تَجِدُهُمْ يَحْكُونَ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً فِي التَّفْسِيرِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ ، بَلْ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالطِّبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْكِي الْخِلَافَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ .