[ ص: 448 ] وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة ; فإنها تفارق بدنها . وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان ، وهي الكليات المعقولة ، ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج ، كما يظن شيعة
أفلاطون [1] ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج ، فتثبت
[2] كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة
[3] كإنسان كلي .
وهذا هو غلطهم
[4] ، حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان ، وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية ، وهي أربعة : العقل ، والنفس ، والمادة ، والصورة ، وطائفة منهم كشيعة
أفلاطون [5] تثبت جوهرا عقليا هو الدهر ، وجوهرا عقليا هو الخير ، وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة .
وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس ، فيتصورها في نفسه ، فهي معقولات في قلبه ، وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج ; فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية ، كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ، ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمرو وبكر ،
[ ص: 449 ] ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه ، يعقله بقلبه ، ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك
[6] فيه هذا وهذا ، بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته ، لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط .
وإذا قيل : الإنسانية مشتركة أو الحيوانية ، فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ، ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية ، وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن . وهو تارة يوجد
[7] مطلقا بشرط الإطلاق ، فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء ، إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج . وتارة يوجد
[8] مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات ، وهذا قد يقال : إنه موجود في الخارج ، وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا . فيقال : هذا الإنسان ، وهذا الحيوان ، وهذا الفرس ، وأما وجوده في الخارج [ مع ]
[9] كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل .
ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ، ومن قال : إن
nindex.php?page=treesubj&link=20900الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج ، لكن لا يوجد في الخارج كليا ، وهذا كما يقال
[10] : ما يتصوره الذهن قد يوجد في
[ ص: 450 ] الخارج وقد لا يوجد ، ولا يراد بذلك أن
[11] نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ، ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج ، كما يوجد أمثاله في الخارج .
كما يتصور الإنسان
[12] دارا يبنيها وعملا يعمله ، ويقول الرجل لغيره : جئت بما كان في نفسي ، وفعلت هذا كما كان في نفسي ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " زورت في نفسي مقالة ، فجاء
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر في بديهته بأحسن منها " . وهذا كله معروف عند الناس ; فإن الشيء له وجود في نفسه ، وله مثال مطابق [ له ]
[13] في العلم ، ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي ، وخط يطابق ذلك اللفظ . ويقال : له وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البنان
[14] ، ووجود عيني ، وعلمي ، ولفظي ، ورسمي ، كالشمس الموجودة ،
والكعبة الموجودة ، ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ، ثم يقول بلسانه : شمس ،
وكعبة ، ثم يكتب بخطه : شمس ، وكعبة ، فإذا كتب وقيل : هذه الشمس التي في السماء ، وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون ، لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس
والكعبة ، ولكن المعنى معروف .
كما إذا قال
[15] : يا زيد ، فالمنادي لا ينادي الصوت ، وإذا قال : ضربت
[ ص: 451 ] زيدا ، لم يرد أنه ضرب الحروف ، لكن قد عرف أنه
nindex.php?page=treesubj&link=21323_21324_27858_29448إذا أطلق الأسماء فالمراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها ، وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ . فإذا قيل : لما في الورقة هذه
الكعبة من
الحجاز ، فالمراد المسمى
[16] بالاسم اللفظي الذي طابقه الخط .
ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد . فإذا قيل لما في النفس : ليس بعينه هو الموجود في الخارج ، فهو بهذا الاعتبار ، أي : ما تصورته [ في ]
[17] النفس موجود في الخارج ، لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم .
فإذا قيل : الكلي الطبيعي في الخارج ، فهو بهذا الاعتبار أي : يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي
[18] الطبيعي ، فإنه المطلق لا بشرط ، فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق ، فإن هذا لا يطابق المعينات .
وأما أن يقال : [ إن ]
[19] في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه ، هو في هذا المعين وهذا المعين ، فهذا
[20] باطل قطعا ، وإن كان قد قاله طائفة ، وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات ، وقالوا : إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة ، وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود ، وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى " الإشارات " وغير ذلك ، وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في
[ ص: 452 ] الأعيان ، فمن عنى بالماهية ما في الذهن ، وبالوجود ما في الخارج ، فهو مصيب في قوله : الوجود مغاير للماهية ، وأما إذا عنى بالماهية ما في الخارج ، وبالوجود ما في الخارج ، وبالماهية ما في الذهن ، وبالوجود ما في الذهن ، وادعى أن في الذهن شيئين ، وأن في الخارج شيئين : وجود وماهية ، فهذا يتخيل
[21] خيالا لا حقيقة له . وبهذا التفصيل يزول الاشتباه الحاصل في هذا الموضع .
nindex.php?page=treesubj&link=20907ولفظ " الماهية " مأخوذ من قول السائل : ما هو ؟ وما هو سؤال عما يتصوره المسئول ليجيب عنه ، وتلك هي الماهية للشيء في نفسه ، والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ ; فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ، ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ، ودلالته على لازم ذلك المعنى بالالتزام
[22] .
وليست
nindex.php?page=treesubj&link=20883دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له ، كما يظنه بعض الناس ، ولا دلالة
[23] nindex.php?page=treesubj&link=20884التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ، ولا دلالة
[24] nindex.php?page=treesubj&link=20885الالتزام استعمال اللفظ في لازم معناه .
بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ ، وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ ، فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في
[ ص: 453 ] معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ ، وسمي " معنى "
[25] لأنه عنى به
[26] أي قصد وأريد بذلك ، فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه .
ثم
nindex.php?page=treesubj&link=20988_21010قد يكون اللفظ مستعملا [ فيما وضع له ، وهو الحقيقة ، وقد يكون مستعملا ] [27] في غير ما وضع له ، وهو المجاز ، وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ، ومن باب استعمال الملزوم في اللازم ، وقد يكون في غير ذلك .
وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى ، وهي
nindex.php?page=treesubj&link=20883دلالة المطابقة ، سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية
[28] ، أو غير ذلك . ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ : إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن ; لأن اللفظ تضمن
[29] ذلك الجزء ، ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم ،
nindex.php?page=treesubj&link=20883وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة ; لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان ، سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا .
فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها [ دلالة ]
[30] مطابقة ، ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ، ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الالتزام .
[ ص: 454 ] فإذا قيل : الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية ، وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن ، وبالخارج ما دل عليه بالالتزام
[31] ، فهذا صحيح .
وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم ، فمن تصور حيوانا ناطقا فقال : إنسان ، كانت دلالته على المجموع مطابقة ، وعلى أحدهما تضمن ، وعلى اللازم - مثل كونه ضاحكا - التزام ، وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة ، وعلى أحدهما تضمن ، وعلى اللازم مثل كونه
[32] ناطقا التزام .
وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج : بعضها داخل في حقيقته وماهيته ، [ وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته ]
[33] ، والداخل هو الذاتي ،
nindex.php?page=treesubj&link=28606والخارج ينقسم إلى لازم للماهية [34] والوجود ، وإلى لازم للوجود دون الماهية ; فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه [ في مواضع ]
[35] ، وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط ، التي بعضها من معلمهم الأول ، وبعضها من تغيير المتأخرين .
وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك [ واحدا واحدا ]
[36] nindex.php?page=showalam&ids=13251كابن سينا [ ص: 455 ] وأبي البركات وغيرهما ، وأنه
[37] يوجد من كلامهم أنفسهم
[38] ، ومن رد بعضهم على بعض ، ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل ، إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية ، لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج .
وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل ، فإن هذا التركيب
[39] ذهني لا حقيقة له في الخارج ، وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك ، إذا جعل كل من الصفتين
[40] لازما ملزوما ، وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة
[41] .
وأما إذا قيل : [ في الخارج ]
[42] الإنسان مركب من هذا وهذا . فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا ، فهذا
[43] صحيح ، وكذلك
[44] إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان ، التي لا يكون إنسانا إلا بها ، كالحيوانية والناطقية ، والضاحكية ، وبين ما يعرض لبعض الناس ، كالسواد والبياض ، والعربية والعجمية ، فهذا صحيح .
أما إذا قيل : هو مركب من صفاته اللازمة له ، وهي أجزاء له ، وهي
[ ص: 456 ] متقدمة عليه تقدما ذاتيا - فإن الجزء قبل الكل ، والمفرد قبل المركب - ، وأريد بذلك التركيب في الخارج ، فهذا كله تخليط . فإن الصفة تابعة للموصوف ، فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه ؟
وإذا قيل : هو مركب من الحيوانية والناطقية ، أو من الحيوان والناطق ، فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما ، لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته ، فيكون في الإنسان جوهر هو جسم ، وجوهر هو حساس ، وجوهر هو نام ، وجوهر هو متحرك بالإرادة ، وجوهر هو ناطق .
ومعلوم أن هذا خطأ ، بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات ، فيقال : جسم حساس
[45] نام متحرك بالإرادة ناطق .
وإن أريد [ به ]
[46] أنه مركب من عرضين ، فالإنسان جوهر ، والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له ، فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه .
وهذا كله قد بسطناه في مواضع ، وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس ، فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج ، فأصحاب
فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم
[47] ،
[ ص: 457 ] وأصحاب
أفلاطون الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية من \ هنا كان غلطهم
[48] ، وأصحاب صاحبه
أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة ، كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج ، من هنا كان غلطهم
[49] .
وهم إذا أثبتوا هذه الماهية ، قيل لهم : أهي في الذهن أم في الخارج ؟ ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم ، وإذا قالوا : نثبتها مطلقة ، مع قطع النظر
[ ص: 458 ] عن هذا ، وهذا أو أعم
[50] من هذا وهذا ، قيل : عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر : إما في الذهن ، وإما في الخارج .
وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن ; فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ، ولا في الخارج لم تكن مقدرا
[51] إلا في الذهن . ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن ، لا أن الماهية التي قيل : عنها ليست في الذهن - هي في الذهن ، بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه ، مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه ، وإن كان تقديرا ممتنعا .
بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن ، وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج ، مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن ، وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن . فكونها في الذهن شيء ، والعلم بكونها في الذهن شيء آخر .
وهؤلاء يتصورون
[52] أشياء ويقدرونها ، وذلك لا يكون إلا في الذهن ، لكن حال ما يتصور الإنسان [ شيئا ]
[53] في ذهنه ويقدره ، قد لا يشعر بكونه في الذهن ، كمن رأى الشيء في الخارج ، فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له . وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء ، الذي يفنى بمذكوره عن ذكره ،
[ ص: 459 ] وبمحبوبه عن محبته ، وبمعبوده عن عبادته ، ونحو ذلك ، كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه ، كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت ، والبحر من زئبق ، فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة .
والاعتقادات الباطلة لا
[54] تكون إلا في الأذهان ، فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج ، فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ، ولا قديما ولا محدثا ، ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره ، وهذا التقدير في الذهن .
وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية ، كما يقوله
الرازي وغيره : إنا يمكننا أن نقول : الموجود إما داخل العالم ، وإما خارج العالم ، وإما لا داخل العالم ولا خارجه ، وكل
[55] موجود إما مباين لغيره وإما محايث له ، وإما لا مباين ومحايث ; فهذا يدل على إمكان القسم الثالث .
وكذلك إذا قلنا : الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ، وإما لا متحيز ، ولا قائم بالمتحيز . وهذا يدل على إمكان القسم [ الثالث ]
[56] وهذا غلط ; فإن هذا كقول القائل : الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ، وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره ، فدل على إمكان القسم الثالث ، فإن هذا غلط .
[ ص: 460 ] وكذلك إذا قيل : إما قديم وإما محدث ، وإما لا قديم ولا محدث ، وإما واجب وإما ممكن ، وإما لا واجب ولا ممكن ، وكذلك ما أشبه هذا .
ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج ، وليس كذلك ، بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة ، لا يجوز وجودها في الخارج ، ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج .
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ، ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب ، وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين : أحدهما : أن كل ما تنازع فيه الناس : هل يمكن [ كل ]
[57] أحد اجتهاد يعرف به الحق ؟ أم
[58] الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر ؟ .
والأصل الثاني : المجتهد العاجز عن معرفة الصواب : هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب ؟
وإذا عرف هذان الأصلان ،
nindex.php?page=treesubj&link=28811فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ جميع ] [59] ما يطعن به فيهم أكثره كذب ، والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ ، والخطأ مغفور ، والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ، ولا يمكن أحد
[60] أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار
[ ص: 461 ] لا محالة . وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله ، فهذا
[61] جواب مجمل
[62] .
ثم نحن نتكلم على ما ذكرته
الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل ، كما ذكره أفضل
الرافضة في زمنه
[63] صاحب هذا الكتاب ، لما ذكر أن
nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي صنف كتابا في " المثالب "
[64] .
[ ص: 448 ] وَمَا يُثْبِتُونَهُ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ الْمُفَارَقَاتِ لَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ مِنْهُ غَيْرُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ ; فَإِنَّهَا تُفَارِقُ بَدَنَهَا . وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ مَعَهُمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ إِلَّا الْمُجَرَّدَاتُ الْمَعْقُولَةُ فِي الْأَذْهَانِ ، وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْمَعْقُولَةُ ، وَلَكِنَّهُمْ يَظُنُّونَ ثُبُوتَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ ، كَمَا يَظُنُّ شِيعَةُ
أَفْلَاطُونَ [1] ثُبُوتَ الْمُثُلِ الْأَفْلَاطُونِيَّةِ فِي الْخَارِجِ ، فَتَثْبُتُ
[2] كُلِّيَّاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ مُفَارِقَةٌ
[3] كَإِنْسَانٍ كُلِّيٍّ .
وَهَذَا هُوَ غَلَطُهُمْ
[4] ، حَيْثُ ظَنُّوا مَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : الْعَقْلُ ، وَالنَّفْسُ ، وَالْمَادَّةُ ، وَالصُّورَةُ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَشِيعَةِ
أَفْلَاطُونَ [5] تُثْبِتُ جَوْهَرًا عَقْلِيًّا هُوَ الدَّهْرُ ، وَجَوْهَرًا عَقْلِيًّا هُوَ الْخَيْرُ ، وَتُثْبِتُ جَوْهَرًا عَقْلِيًّا هُوَ الْمَادَّةُ الْأُولَى الْمُعَارِضَةُ لِلصُّورَةِ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا إِذَا حُقِّقَتْ غَايَةَ التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُورٌ مَعْقُولَةٌ فِي النَّفْسِ ، فَيَتَصَوَّرُهَا فِي نَفْسِهِ ، فَهِيَ مَعْقُولَاتٌ فِي قَلْبِهِ ، وَهِيَ مُجَرَّدَةٌ عَنْ جُزْئِيَّاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ ; فَإِنَّ الْعَقْلَ دَائِمًا يَنْتَزِعُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَشْهُودَةِ كُلِّيَّاتٍ مُشْتَرَكَةً عَقْلِيَّةً ، كَمَا يَتَصَوَّرُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا ، ثُمَّ يَتَصَوَّرُ إِنْسَانًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا يَنْطَبِقُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ ،
[ ص: 449 ] وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ إِنَّمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ وَذِهْنِهِ ، يَعْقِلُهُ بِقَلْبِهِ ، لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إِنْسَانٌ مُشْتَرَكٌ كُلِّيٌّ يَشْتَرِكُ
[6] فِيهِ هَذَا وَهَذَا ، بَلْ كُلُّ إِنْسَانٍ يَخْتَصُّ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ ، لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا قَامَ بِهِ قَطُّ .
وَإِذَا قِيلَ : الْإِنْسَانِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ أَوِ الْحَيَوَانِيَّةُ ، فَالْمُرَادُ أَنَّ فِي هَذَا حَيَوَانِيَّةً وَإِنْسَانِيَّةً تُشَابِهُ مَا فِي هَذَا مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ ، وَذَلِكَ الْمُسَمَّى إِذَا أَخَذَ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي الذِّهْنِ . وَهُوَ تَارَةً يُوجَدُ
[7] مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ ، إِلَّا مَنْ أَثْبَتَ الْمُثُلَ الْأَفْلَاطُونِيَّةَ فِي الْخَارِجِ . وَتَارَةً يُوجَدُ
[8] مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْمُعَيَّنَاتِ ، وَهَذَا قَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا مَخْصُوصًا . فَيُقَالُ : هَذَا الْإِنْسَانُ ، وَهَذَا الْحَيَوَانُ ، وَهَذَا الْفَرَسُ ، وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ [ مَعَ ]
[9] كَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي الْخَارِجِ فَهَذَا بَاطِلٌ .
وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ ثَابِتَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20900الْكُلِّيَّ الطَّبِيعِيَّ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَمَعْنَاهُ الصَّحِيحُ أَنَّ مَا هُوَ كُلِّيٌّ إِذَا كَانَ فِي الذِّهْنِ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ ، لَكِنْ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ
[10] : مَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ قَدْ يُوجَدُ فِي
[ ص: 450 ] الْخَارِجِ وَقَدْ لَا يُوجَدُ ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ
[11] نَفْسَ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ تَكُونُ بِعَيْنِهَا فِي الْخَارِجِ ، وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ قَدْ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ ، كَمَا يُوجَدُ أَمْثَالُهُ فِي الْخَارِجِ .
كَمَا يَتَصَوَّرُ الْإِنْسَانُ
[12] دَارًا يَبْنِيهَا وَعَمَلًا يَعْمَلُهُ ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : جِئْتَ بِمَا كَانَ فِي نَفْسِي ، وَفَعَلْتَ هَذَا كَمَا كَانَ فِي نَفْسِي ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً ، فَجَاءَ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ فِي بَدِيهَتِهِ بِأَحْسَنَ مِنْهَا " . وَهَذَا كُلُّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ ; فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي نَفْسِهِ ، وَلَهُ مِثَالٌ مُطَابِقٌ [ لَهُ ]
[13] فِي الْعِلْمِ ، وَلَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ ، وَخَطٌّ يُطَابِقُ ذَلِكَ اللَّفْظَ . وَيُقَالُ : لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ ، وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ ، وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ ، وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ
[14] ، وَوُجُودٌ عَيْنِيٌّ ، وَعِلْمِيٌّ ، وَلَفْظِيٌّ ، وَرَسْمِيٌّ ، كَالشَّمْسِ الْمَوْجُودَةِ ،
وَالْكَعْبَةِ الْمَوْجُودَةِ ، ثُمَّ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ الشَّمْسَ يُمَثِّلُهَا فِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ : شَمْسٌ ،
وَكَعْبَةٌ ، ثُمَّ يَكْتُبُ بِخَطِّهِ : شَمْسٌ ، وَكَعْبَةٌ ، فَإِذَا كَتَبَ وَقِيلَ : هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ ، وَهَذِهِ الْكَعْبَةُ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْخَطَّ هُوَ الشَّمْسُ
وَالْكَعْبَةُ ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ .
كَمَا إِذَا قَالَ
[15] : يَا زَيْدُ ، فَالْمُنَادِي لَا يُنَادِي الصَّوْتَ ، وَإِذَا قَالَ : ضَرَبْتُ
[ ص: 451 ] زَيْدًا ، لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ ضَرَبَ الْحُرُوفَ ، لَكِنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=21323_21324_27858_29448إِذَا أَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ فَالْمُرَادُ مُسَمَّيَاتُهَا الَّتِي جُعِلَتِ الْأَسْمَاءُ دَالَّةً عَلَيْهَا ، وَإِذَا كُتِبَتِ الْأَسْمَاءُ فَالْمُرَادُ بِالْخَطِّ مَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ . فَإِذَا قِيلَ : لِمَا فِي الْوَرَقَةِ هَذِهِ
الْكَعْبَةُ مِنَ
الْحِجَازِ ، فَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى
[16] بِالِاسْمِ اللَّفْظِيِّ الَّذِي طَابَقَهُ الْخَطُّ .
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ . فَإِذَا قِيلَ لِمَا فِي النَّفْسِ : لَيْسَ بِعَيْنِهِ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، أَيْ : مَا تَصَوَّرْتَهُ [ فِي ]
[17] النَّفْسِ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ ، لَكِنْ يُطَابِقُهُ مُطَابَقَةَ الْمَعْلُومِ لِلْعِلْمِ .
فَإِذَا قِيلَ : الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ فِي الْخَارِجِ ، فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْ : يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مَا يُطَابِقُهُ الْكُلِّيُّ
[18] الطَّبِيعِيُّ ، فَإِنَّهُ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطٍ ، فَيُطَابِقُ الْمُعَيَّنَاتِ بِخِلَافِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُطَابِقُ الْمُعَيَّنَاتِ .
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : [ إِنَّ ]
[19] فِي الْخَارِجِ أَمْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا فِيهِ بِعَيْنِهِ ، هُوَ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنِ ، فَهَذَا
[20] بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ ، وَأَثْبَتُوا مَاهِيَّاتٍ مُجَرَّدَةً فِي الْخَارِجِ عَنِ الْمُعَيَّنَاتِ ، وَقَالُوا : إِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ غَشِيَتْهَا غَوَاشٍ غَرِيبَةٌ ، وَإِنَّ أَسْبَابَ الْمَاهِيَّةِ غَيْرُ أَسْبَابِ الْوُجُودِ ، وَهَذَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْطِقِ وَعَلَى " الْإِشَارَاتِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَبُيِّنَ أَنَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ لَيْسَ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي
[ ص: 452 ] الْأَعْيَانِ ، فَمَنْ عَنَى بِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الذِّهْنِ ، وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الْخَارِجِ ، فَهُوَ مُصِيبٌ فِي قَوْلِهِ : الْوُجُودُ مُغَايِرٌ لِلْمَاهِيَّةِ ، وَأَمَّا إِذَا عَنَى بِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الْخَارِجِ ، وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الْخَارِجِ ، وَبِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الذِّهْنِ ، وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الذِّهْنِ ، وَادَّعَى أَنَّ فِي الذِّهْنِ شَيْئَيْنِ ، وَأَنَّ فِي الْخَارِجِ شَيْئَيْنِ : وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ ، فَهَذَا يَتَخَيَّلُ
[21] خَيَالًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ الْحَاصِلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
nindex.php?page=treesubj&link=20907وَلَفْظُ " الْمَاهِيَّةِ " مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ السَّائِلِ : مَا هُوَ ؟ وَمَا هُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَتَصَوَّرُهُ الْمَسْئُولُ لِيُجِيبَ عَنْهُ ، وَتِلْكَ هِيَ الْمَاهِيَّةُ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ ، وَالْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ ; فَتَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالتَّضَمُّنِ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالِالْتِزَامِ
[22] .
وَلَيْسَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=20883دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ ، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَلَا دَلَالَةَ
[23] nindex.php?page=treesubj&link=20884التَّضَمُّنِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي جُزْءِ مَعْنَاهُ ، وَلَا دَلَالَةَ
[24] nindex.php?page=treesubj&link=20885الِالْتِزَامِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ .
بَلْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ وَبَيْنَ مَا عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ ، وَبَيْنَ مَا يَحْمِلُ الْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ اللَّفْظَ ، فَالْمُتَكَلِّمُ إِذَا اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِي
[ ص: 453 ] مَعْنًى فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِاللَّفْظِ ، وَسُمِّيَ " مَعْنًى "
[25] لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ
[26] أَيْ قُصِدَ وَأُرِيدَ بِذَلِكَ ، فَهُوَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودُهُ بِلَفْظِهِ .
ثُمَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20988_21010قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا [ فِيمَا وُضِعَ لَهُ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا ] [27] فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ، وَهُوَ الْمَجَازُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَجَازُ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْجَمِيعِ فِي الْبَعْضِ ، وَمِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَلْزُومِ فِي اللَّازِمِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَجْمُوعِ الْمَعْنَى ، وَهِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=20883دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الدَّلَالَةُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازِيَّةً
[28] ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ : إِذَا كَانَ لَهُ جُزْءٌ فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تَضَمُّنٌ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ تَضَمَّنَ
[29] ذَلِكَ الْجُزْءَ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى هِيَ دَلَالَةُ الْمَلْزُومِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20883وَكُلُّ لَفْظٍ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنًى فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ مُطَابِقَةٌ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ طَابَقَ الْمَعْنَى بِأَيِّ لُغَةٍ كَانَ ، سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .
فَالْمَاهِيَّةُ الَّتِي يَعْنِيهَا الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِهِ دَلَالَةُ لَفْظِهِ عَلَيْهَا [ دَلَالَةً ]
[30] مُطَابِقَةً ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا دَلَالَةُ تَضَمُّنٍ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ خَارِجٌ عَنْهَا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ .
[ ص: 454 ] فَإِذَا قِيلَ : الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ الدَّاخِلَةُ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْخَارِجَةُ عَنِ الْمَاهِيَّةِ ، وَعُنِي بِالدَّاخِلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالتَّضَمُّنِ ، وَبِالْخَارِجِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ
[31] ، فَهَذَا صَحِيحٌ .
وَهَذَا الدُّخُولُ وَالْخُرُوجُ هُوَ بِحَسَبِ مَا تَصَوَّرَهُ الْمُتَكَلِّمُ ، فَمَنْ تَصَوَّرَ حَيَوَانًا نَاطِقًا فَقَالَ : إِنْسَانٌ ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مُطَابِقَةً ، وَعَلَى أَحَدِهِمَا تَضَمُّنٌ ، وَعَلَى اللَّازِمِ - مِثْلَ كَوْنِهِ ضَاحِكًا - الْتِزَامٌ ، وَإِذَا تَصَوَّرَ إِنْسَانًا ضَاحِكًا كَانَتْ دَلَالَةُ إِنْسَانٍ عَلَى الْمَجْمُوعِ مُطَابِقَةً ، وَعَلَى أَحَدِهِمَا تَضَمُّنٌ ، وَعَلَى اللَّازِمِ مِثْلَ كَوْنِهِ
[32] نَاطِقًا الْتِزَامٌ .
وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ لِلْمَوْصُوفِ فِي الْخَارِجِ : بَعْضُهَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ ، [ وَبَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ ]
[33] ، وَالدَّاخِلُ هُوَ الذَّاتِيُّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28606وَالْخَارِجُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَازِمٍ لِلْمَاهِيَّةِ [34] وَالْوُجُودِ ، وَإِلَى لَازِمٍ لِلْوُجُودِ دُونَ الْمَاهِيَّةِ ; فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ [ فِي مَوَاضِعَ ]
[35] ، وَبَيَّنَّا مَا فِي الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ مِنَ الْأَغَالِيطِ ، الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ مُعَلِّمِهِمُ الْأَوَّلِ ، وَبَعْضُهَا مِنْ تَغْيِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ [ وَاحِدًا وَاحِدًا ]
[36] nindex.php?page=showalam&ids=13251كَابْنِ سِينَا [ ص: 455 ] وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَأَنَّهُ
[37] يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْفُسِهِمْ
[38] ، وَمِنْ رَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، مَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْسِيمِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ ، إِلَّا إِذَا جُعِلَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الْمَاهِيَّةِ ، لَا بِاعْتِبَارِ مَاهِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ .
وَكَذَلِكَ مَا فَرَّعُوهُ عَلَى هَذَا مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ
[39] ذِهْنِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ ، وَتَرَكُّبُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ مِنْ جِنْسِ تَركُّبِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالضَّاحِكِ ، إِذَا جُعِلَ كُلٌّ مِنَ الصِّفَتَيْنِ
[40] لَازِمًا مَلْزُومًا ، وَأُرِيدَ الضَّاحِكُ بِالْقُوَّةِ وَالنَّاطِقُ بِالْقُوَّةِ
[41] .
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ : [ فِي الْخَارِجِ ]
[42] الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا . فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَهَذَا ، فَهَذَا
[43] صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ
[44] إِذَا فُرِّقَ بَيْنَ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ ، الَّتِي لَا يَكُونُ إِنْسَانًا إِلَّا بِهَا ، كَالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ ، وَالضَّاحِكِيَّةِ ، وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ ، فَهَذَا صَحِيحٌ .
أَمَّا إِذَا قِيلَ : هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ ، وَهِيَ أَجْزَاءٌ لَهُ ، وَهِيَ
[ ص: 456 ] مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا ذَاتِيًّا - فَإِنَّ الْجُزْءَ قَبْلَ الْكُلِّ ، وَالْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ - ، وَأُرِيدَ بِذَلِكَ التَّرْكِيبُ فِي الْخَارِجِ ، فَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ . فَإِنَّ الصِّفَةَ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ؟
وَإِذَا قِيلَ : هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ ، أَوْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ جَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ بِعَدَدِ صِفَاتِهِ ، فَيَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ جَوْهَرٌ هُوَ جِسْمٌ ، وَجَوْهَرٌ هُوَ حَسَّاسٌ ، وَجَوْهَرٌ هُوَ نَامٍ ، وَجَوْهَرٌ هُوَ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ ، وَجَوْهَرٌ هُوَ نَاطِقٌ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ ، بَلِ الْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَيُقَالُ : جِسْمٌ حَسَّاسٌ
[45] نَامٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ .
وَإِنْ أُرِيدَ [ بِهِ ]
[46] أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ عَرَضَيْنِ ، فَالْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ ، وَالْجَوْهَرُ لَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَعْرَاضٍ لَاحِقَةٍ لَهُ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً لَهُ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي جَعْلِ الْأُمُورِ الذِّهْنِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي النَّفْسِ ، فَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أُمُورًا مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ ، فَأَصْحَابُ
فِيثَاغُورْسَ الْقَائِلُونَ بِالْأَعْدَادِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هُنَا كَانَ غَلَطُهُمْ
[47] ،
[ ص: 457 ] وَأَصْحَابُ
أَفْلَاطُونَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْمُثُلَ الْأَفْلَاطُونِيَّةَ مِنْ \ هُنَا كَانَ غَلَطُهُمْ
[48] ، وَأَصْحَابُ صَاحِبِهِ
أَرِسْطُو الَّذِينَ أَثْبَتُوا جَوَاهِرَ مَعْقُولَةً مُجَرَّدَةً فِي الْخَارِجِ مُقَارَنَةً لِلْجَوَاهِرِ الْمَوْجُودَةِ الْمَحْسُوسَةِ ، كَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَالْمَاهِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ ، مِنْ هُنَا كَانَ غَلَطُهُمْ
[49] .
وَهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ ، قِيلَ لَهُمْ : أَهِيَ فِي الذِّهْنِ أَمْ فِي الْخَارِجِ ؟ فَفِي أَيِّهِمَا أَثْبَتُوهَا ظَهَرَ غَلَطُهُمْ ، وَإِذَا قَالُوا : نُثْبِتُهَا مُطْلَقَةً ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ
[ ص: 458 ] عَنْ هَذَا ، وَهَذَا أَوْ أَعَمَّ
[50] مِنْ هَذَا وَهَذَا ، قِيلَ : عَدَمُ نَظَرِ النَّاظِرِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : إِمَّا فِي الذِّهْنِ ، وَإِمَّا فِي الْخَارِجِ .
وَمَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهَا فَهُوَ أَيْضًا فِي الذِّهْنِ ; فَإِنَّكَ إِذَا قَدَّرْتَ مَاهِيَّةً لَا فِي الذِّهْنِ ، وَلَا فِي الْخَارِجِ لَمْ تَكُنْ مُقَدِّرًا
[51] إِلَّا فِي الذِّهْنِ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ فِي الذِّهْنِ ، لَا أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي قِيلَ : عَنْهَا لَيْسَتْ فِي الذِّهْنِ - هِيَ فِي الذِّهْنِ ، بَلِ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي تَصَوَّرَهَا الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ يُمْكِنُهُ تَقْدِيرُهَا لَيْسَتْ فِي ذِهْنِهِ ، مَعَ أَنَّ تَقْدِيرَهَا لَيْسَتْ فِي ذِهْنِهِ هُوَ فِي ذِهْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا .
بَلْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ بِكَوْنِهَا فِي الذِّهْنِ ، وَبَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تَتَقَدَّرُ بِذِهْنٍ وَلَا خَارِجٍ ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَكُونُ أَيْضًا إِلَّا فِي الذِّهْنِ ، وَإِنْ أَعْرَضَ الذِّهْنُ عَنْ كَوْنِهَا فِي الذِّهْنِ . فَكَوْنُهَا فِي الذِّهْنِ شَيْءٌ ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فِي الذِّهْنِ شَيْءٌ آخَرُ .
وَهَؤُلَاءِ يَتَصَوَّرُونَ
[52] أَشْيَاءَ وَيُقَدِّرُونَهَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ ، لَكِنْ حَالَ مَا يَتَصَوَّرُ الْإِنْسَانُ [ شَيْئًا ]
[53] فِي ذِهْنِهِ وَيُقَدِّرُهُ ، قَدْ لَا يَشْعُرُ بِكَوْنِهِ فِي الذِّهْنِ ، كَمَنْ رَأَى الشَّيْءَ فِي الْخَارِجِ ، فَاشْتَغَلَ بِالْمَرْئِيِّ عَنْ كَوْنِهِ رَائِيًا لَهُ . وَهَذَا يُشْبِهُ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْفَنَاءَ ، الَّذِي يَفْنَى بِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ ،
[ ص: 459 ] وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، كَمَا يُقَدِّرُ الشَّيْءَ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، كَمَا إِذَا قَدَّرَ أَنَّ الْجَبَلَ مِنْ يَاقُوتٍ ، وَالْبَحْرَ مِنْ زِئْبَقٍ ، فَتَقْدِيرُ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ هُوَ تَقْدِيرُ اعْتِقَادَاتٍ بَاطِلَةٍ .
وَالِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ لَا
[54] تَكُونُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ ، فَمَنْ قَدَّرَ مَاهِيَّةً لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ ، فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَدَّرَ مَوْجُودًا لَا وَاجِبًا وَلَا مُمْكِنًا ، وَلَا قَدِيمًا وَلَا مُحْدَثًا ، وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمًا بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِي الذِّهْنِ .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَّا فَسَادَ احْتِجَاجِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ بِالتَّقْدِيرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ عَلَى الْإِمْكَانَاتِ الْخَارِجِيَّةِ ، كَمَا يَقُولُهُ
الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنَّا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ : الْمَوْجُودُ إِمَّا دَاخِلَ الْعَالَمِ ، وَإِمَّا خَارِجَ الْعَالَمِ ، وَإِمَّا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ، وَكُلٌّ
[55] مَوْجُودٍ إِمَّا مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا مُحَايِثٌ لَهُ ، وَإِمَّا لَا مُبَايِنٌ وَمُحَايِثٌ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ .
وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا : الْمَوْجُودُ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ ، وَإِمَّا لَا مُتَحَيِّزٌ ، وَلَا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْقِسْمِ [ الثَّالِثِ ]
[56] وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : الْمَوْجُودُ إِمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ ، وَإِمَّا لَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ ، فَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ ، فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ .
[ ص: 460 ] وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ : إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ ، وَإِمَّا لَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ ، وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ ، وَإِمَّا لَا وَاجِبٌ وَلَا مُمْكِنٌ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا .
وَدَخَلَ الْغَلَطُ عَلَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ تَقْدِيرِ الذِّهْنِ وَفَرْضِهِ يَقْتَضِي إِمْكَانُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلِ الذِّهْنُ يَفْرِضُ أُمُورًا مُمْتَنِعَةً ، لَا يَجُوزُ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْحَالَ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ : هَلْ يُمْكِنُ [ كُلُّ ]
[57] أَحَدٍ اجْتِهَادٌ يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ ؟ أَمِ
[58] النَّاسُ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ وَغَيْرِ قَادِرٍ ؟ .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : الْمُجْتَهِدُ الْعَاجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ : هَلْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ أَمْ لَا يُعَاقِبُ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الصَّوَابِ ؟
وَإِذَا عُرِفَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28811فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ جَمِيعُ ] [59] مَا يُطْعَنُ بِهِ فِيهِمْ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ ، وَالصِّدْقُ مِنْهُ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا أَوْ خَطَأً ، وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ ، وَالذَّنْبُ لَهُ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ
[60] أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يُوجِبُ النَّارَ
[ ص: 461 ] لَا مَحَالَةَ . وَكَثِيرٌ مِمَّا يُطْعَنُ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ يَكُونُ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَفَضَائِلِهِ ، فَهَذَا
[61] جَوَابٌ مُجْمَلٌ
[62] .
ثُمَّ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ
الرَّافِضَةُ مِنَ الْمَطَاعِنِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ ، كَمَا ذَكَرَهُ أَفْضَلُ
الرَّافِضَةِ فِي زَمَنِهِ
[63] صَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=15097الْكَلْبِيَّ صَنَّفَ كِتَابًا فِي " الْمَثَالِبِ "
[64] .