فصل [1] 
قال الرافضي [2]  : وقال  عمر   : كانت بيعة  أبي بكر  فلتة وقى الله المسلمين [3] شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل ، فيلزم تطرق الطعن إلى  عمر   . وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا "  [4]  . 
والجواب : أن لفظ الحديث سيأتي . قال فيه : " فلا يغترن امرؤ أن يقول : " إنما كانت بيعة  أبي بكر  فلتة فتمت . ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن وقى الله شرها ، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل  أبي بكر   " [5] ومعناه أن بيعة  أبي بكر  بودر إليها من غير تريث ولا انتظار ; لكونه  [ ص: 470 ] كان متعينا لهذا الأمر . كما قال  عمر   : " ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل  أبي بكر   " . 
وكان ظهور فضيلة  أبي بكر  على من سواه  ، وتقديم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على سائر الصحابة أمرا ظاهرا معلوما . فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث ، بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث ، فمن بايع غير  أبي بكر  عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك . 
وهذا قد جاء مفسرا في حديث  عمر  هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح ، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره . وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم ، وقد رواها  البخاري  في صحيحه [6] عن  ابن عباس  ، قال     [7]  : " كنت أقرئ رجالا من المهاجرين  منهم :  عبد الرحمن بن عوف  ، فبينما [8] أنا في منزله [9] بمنى  ، وهو عند  عمر بن الخطاب  في آخر حجة حجها ، إذ رجع إلى  عبد الرحمن بن عوف  [10] ،  [ ص: 471 ] فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان يقول : لو قد مات  عمر  لقد [11] بايعت فلانا ، فوالله ، ما كانت بيعة  أبي بكر  إلا فلتة فتمت ؟ فغضب  عمر  ثم قال [12]  : إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، فقال   [13] عبد الرحمن   : فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ; فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وإنهم   [14] هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا   [15] أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة   ; فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك   [16] متمكنا [17] ، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها [18] على مواضعها ، فقال [19]  عمر   : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة  ، قال  ابن عباس   : فقدمنا المدينة  في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح   [20] حين زاغت  [ ص: 472 ] الشمس ، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل  جالسا إلى ركن المنبر ، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج  عمر بن الخطاب    [21] ، فلما رأيته مقبلا قلت : لسعيد بن زيد [ بن عمرو بن نفيل ]     [22]  : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف . فأنكر علي ، وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله ؟ فجلس  عمر  على المنبر ، فلما سكت المؤذنون [23] قام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي : إن الله بعث محمدا   - صلى الله عليه وسلم - بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما   [24] أنزل عليه آية   [25] الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : [ والله ]   [26] ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى [ إذا أحصن ]   [27] من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب  [ ص: 473 ] الله : [ أن ]   [28] لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم   [29] ، ألا إن   [30] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تطروني كما أطرت النصاري  عيسى   [31] ابن مريم  ، وقولوا : عبد الله ورسوله  " ثم إنه بلغني أن قائلا منكم [32] يقول : والله ، لو مات  عمر  لبايعت [33] فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة  أبي بكر  فلتة [34] فتمت   [35] ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها ، وليس فيكم [36] من تقطع الأعناق إليه مثل  [ ص: 474 ]  أبي بكر  [37] ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا [38] ، وإنه قد كان من خبرنا   [39] حين توفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن [40] الأنصار  خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة  ، وخالف عنا  علي   والزبير  ومن معهما [41] ، واجتمع المهاجرون إلى  أبي بكر   . فقلت  لأبي بكر   : يا  أبا بكر  انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار  ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين  ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء [42] من الأنصار   . فقالا : لا عليكم أن [ لا ] [43] تقربوهم . اقضوا أمركم . فقلت : والله ، لنأتينهم . فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة  ، فإذا رجل مزمل [44] بين ظهرانيهم . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا  سعد بن عبادة   . فقلت : ما له ؟ قالوا : يوعك [45]  .  [ ص: 475 ] فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر [46] المهاجرين  رهط وقد دفت دافة [47] من قومكم ، [ فإذا هم ]   [48] يريدون أن يختزلونا [49] من أصلنا وأن يحضنونا [50] من الأمر ، فلما سكت أردت [51] أن أتكلم ، وكنت زورت [52] مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي  أبي بكر  ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال  أبو بكر   : على رسلك [53]  . فكرهت أن أغضبه ، فتكلم  أبو بكر  ، فكان هو أحلم مني وأوقر . والله ، ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها ، حتى سكت . فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف [54] هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش  ، هم أوسط العرب  [ ص: 476 ] نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم . فأخذ بيدي وبيد  أبي عبيدة بن الجراح  وهو جالس بيننا . فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله ، أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم  أبو بكر  ، اللهم إلا أن تسول لي   [55] نفسي عند الموت شيئا لا أجده [56] الآن . فقال قائل من الأنصار   : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب [57] ، منا أمير ، ومنكم أمير يا معشر قريش  ، فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا  أبا بكر   . فبسط يده ، فبايعته وبايعه المهاجرون  ، ثم بايعته [58] الأنصار  ، ونزونا [59] على  سعد بن عبادة  ، فقال قائل [ منهم ]   [60]  : قتلتم  سعد بن عبادة   . فقلت : قتل الله  سعد بن عبادة   . قال  عمر   : وإنا والله  [ ص: 477 ] ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة  أبي بكر  ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما بايعناهم [61] على ما لا نرضى [62] ، وإما أن نخالفهم [63] فيكون فساد ، فمن بايع رجلا على غير [64] مشورة من المسلمين فلا يتابع [65] هو ولا الذي [66] بايعه تغرة أن يقتلا " [67] قال  مالك  [68]  : وأخبرني  ابن شهاب  عن  عروة بن الزبير   : أن الرجلين اللذين لقياهما [69]  . عويمر [70]  ( ط . المعارف 1 \ 327 . بن ساعدة ومعن بن عدي   - وهما ممن شهد بدرا  [71]  - قال  ابن شهاب   : وأخبرني  سعيد بن المسيب   : أن  [ ص: 478 ] الذي قال : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب : الحباب بن المنذر   . 
وفي صحيح  البخاري    [72] عن  عائشة   - رضي الله عنها - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات ،  وأبو بكر  بالسنح    [73] فقام  عمر  يقول : والله ، ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال   [74]  : " وقال  عمر   : والله ما كان يقع في قلبي   [75] إلا ذاك - وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء  أبو بكر   [ - رضي الله عنه - ] [76] فكشف عن رسول - صلى الله عليه وسلم - [ فقبله ] [77] فقال [78]  : بأبي وأمي [79] ، طبت حيا وميتا ، والذي نفسي بيده ، لا يذيقك الله الموتتين أبدا ، ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك . فلما تكلم  أبو بكر  جلس  عمر  ، فحمد الله  أبو بكر  ، وأثنى عليه ، وقال [80]  : ألا من كان يعبد محمدا [81] فإن محمدا  قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وقال الله تعالى   [82]  : ( إنك ميت وإنهم ميتون   )  [ ص: 479 ]  [ سورة الزمر : 30 ] ، وقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين   ) [ سورة آل عمران : 144 ] قال : فنشج الناس يبكون ، واجتمعت الأنصار  إلى  سعد بن عبادة  في سقيفة بني ساعدة  فقالوا : منا أمير ، ومنكم أمير ، فذهب إليهم  أبو بكر   وعمر بن الخطاب   وأبو عبيدة بن الجراح  ، فذهب  عمر  يتكلم فأسكته  أبو بكر  ، وكان  عمر  يقول : والله ، ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني ، خشيت أن لا يبلغه  أبو بكر  ، ثم تكلم  أبو بكر  فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، فقال حباب بن المنذر   : لا والله ، لا نفعل منا أمير ، ومنكم أمير ، فقال  أبو بكر   : لا . ولكنا الأمراء ، وأنتم الوزراء . هم أوسط العرب دارا ، وأعربهم [83] أحسابا ، فبايعوا  عمر  أو  أبا عبيدة بن الجراح  ، فقال  عمر   : بل نبايعك أنت . فأنت سيدنا وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ  عمر  بيده فبايعه ، وبايعه الناس . فقال قائل : قتلتم  سعد بن عبادة  [84]  . فقال  عمر   : قتله الله   [85]  " . 
وفي صحيح  البخاري  عن  عائشة  في هذه القصة قالت   [86]  : " ما كان   [87] من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها ، لقد خوف  عمر  الناس ، وإن فيهم  [ ص: 480 ] لنفاقا ، فردهم الله بذلك ، ثم لقد بصر  أبو بكر  الناس الهدى ، وعرفهم الحق الذي عليهم " . 
وفي صحيح  البخاري  عن  أنس بن مالك  [88]  : أنه سمع خطبة  عمر  الآخرة [89] حين جلس على المنبر ، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتشهد  وأبو بكر  صامت لا يتكلم ، قال : كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدبرنا ، يريد بذلك أن يكون آخرهم ; فإن يكن   [90] محمد [91] قد مات فإن الله [92] قد جعل بين أظهركم [93] نورا تهتدون به ، به هدى الله محمدا  [94] ، وإن  أبا بكر  صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين ، وإنه [95] أولى المسلمين بأموركم ، فقوموا فبايعوه ، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة  ، وكانت بيعة [96] العامة على المنبر  " . 
وعنه [97]  : " قال : سمعت [98]  عمر  يقول  لأبي بكر  يومئذ : اصعد المنبر ، فلم يزل به حتى صعد [ المنبر ] [99] فبايعه الناس عامة  " . 
 [ ص: 481 ] وفي طريق [100] أخرى لهذه الخطبة   [101]  : " أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي [102] هدى الله به رسوله   [103] ، فخذوا به تهتدوا ، لما هدى الله   [104] به رسوله - صلى الله عليه وسلم  -   [105]  " . 
				
						
						
