[ ص: 45 ] فصل [1] 
قال الرافضي [2]  : " وأمر برجم مجنونة ، فقال له  علي   - رضي الله عنه - : إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك ، وقال : لولا  علي  لهلك  عمر   "   . 
والجواب : أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث [3]  . ورجم المجنونة لا يخلو : إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام ، أو كان ذاهلا عن ذلك فذكر بذلك ، أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا ، والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين ، والزنا هو من العدوان ، فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله - تعالى - التي لا تقام إلا على المكلف . 
والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع  " [4]  . 
 [ ص: 46 ] والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل ، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت ، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء ، كمالك  والشافعي   وأحمد  وغيرهم ،  وأبو حنيفة  يقول : إنه يضمنها للمالك لأنه قتلها لمصلحته ، فهو كما لو قتلها في المخمصة ، والجمهور يقولون : هناك قتلها بسبب منه لا بسبب عدوانها [5] ، وهنا قتلها بسبب عدوانها [6]  . 
ففي الجملة قتل غير المكلف ، كالصبي والمجنون والبهيمة ، لدفع عدوانهم [ جائز بالنص والاتفاق ، [7] إلا في بعض المواضع ] [8] كقتلهم في الإغارة والبيات وبالمنجنيق وقتلهم لدفع صيالهم . 
وحديث : " رفع القلم عن ثلاثة  " إنما يدل على رفع الإثم لا [ يدل ] [9] على منع الحد [10] إلا بمقدمة أخرى ، وهو أن يقال : من لا قلم عليه لا حد عليه ، وهذه المقدمة فيها خفاء ؛ فإن من لا قلم عليه [11] قد يعاقب أحيانا ، ولا يعاقب أحيانا ، والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي ، ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ، ولم يندفع إلا بقتله ، فلها قتله ، بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم . 
 [ ص: 47 ] فلو اعتقد بعض المجتهدين أن الزنا عدوان ، كما سماه الله - تعالى - عدوانا بقوله : ( فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون   ) [ سورة المؤمنون : 7 ] فيقتل به المجنون ، حتى يتبين له أن هذا حد الله ، فلا يقام [12] إلا بعد العلم بالتحريم ، والمجنون لم يعلم التحريم ، لم يشنع عليه في هذا إلا من شنع بأعظم منه على غيره . 
فلو قال قائل : قتال المسلمين هو عقوبة لهم ، فلا يعاقبون حتى يعلموا الإيجاب والتحريم ، وأصحاب معاوية [ الذين قاتلهم [13] علي ] [14] لم يكونوا يعلمون أن لهم ذنبا ، فلم يجز لعلي قتالهم على ما لا يعلمون أنه ذنب ، وإن كانوا مذنبين فإن غاية ما يقال [15]  : إنهم تركوا الطاعة الواجبة ، لكن كثيرا منهم - أو أكثرهم - لم يكونوا يعلمون أنه يجب عليهم طاعة علي ومتابعته ، بل كان لهم من الشبهات والتأويلات ما يمنع علمهم بالوجوب ، فكيف جاز قتال من لم يعلم أنه ترك واجبا ، أو فعل محرما مع كونه كان معصوما ؟ لم يكن مثل هذا قدحا في إمامة علي ، فكيف يكون ذلك قدحا في إمامة عمر ؟ ! 
لا سيما والقتال على ترك الواجب إنما يشرع إذا كانت مفسدة القتال أقل من مفسدة ترك ذلك الواجب ، والمصلحة بالقتال أعظم من المصلحة بتركه . 
 [ ص: 48 ] ولم يكن الأمر كذلك ؛ فإن القتال لم يحصل الطاعة المطلوبة ، بل زاد بذلك عصيان الناس  لعلي  ، حتى عصاه وخرج عليه خوارج من عسكره ، وقاتله كثير من أمراء جيشه ، وأكثرهم [16] لم يكونوا مطيعين له مطلقا ، وكانوا قبل القتال أطوع له منهم بعد القتال . 
فإن قيل :  علي  كان مجتهدا في ذلك ، معتقدا أنه بالقتال يحصل الطاعة . 
قيل : فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا ، مع أنه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين ، بحيث حصل الفساد ، ولم يحصل المطلوب من الصلاح ، أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد ، لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش ، اجتهادا مغفورا ؟ مع أن ذلك لم يقتله ، بل هم به وتركه . 
وولي الأمر إلى معرفة الأحكام في السياسة العامة الكلية أحوج منه إلى معرفة الأحكام [17] في الحدود الجزئية ،  وعمر   - رضي الله عنه - لم يكن يخفى عليه أن المجنون ليس بمكلف : لكن [18] المشكل أن من ليس بمكلف : هل يعاقب لدفع الفساد ؟ هذا موضع مشتبه ؛ فإن الشرع قد جاء بعقوبة غير المكلفين في دفع الفساد في غير موضع ، والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس ، والغلام الذي قتله الخضر قد قيل : إنه  [ ص: 49 ] كان لم يبلغ [ الحلم ] [19] وقتله لدفع صوله على أبويه بأن يرهقهما طغيانا وكفرا . 
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ  " [20] ، إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين ، فلو أتلفوا نفسا أو مالا ضمنوه ، وأما رفع العقوبة إذا سرق أحدهما أو زنى أو قطع الطريق ، فهذا علم بدليل منفصل بمجرد هذا الحديث . 
ولهذا اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج ، واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان ، واختلفوا في الزكاة ؛ فقالت طائفة -  كأبي حنيفة   - : إنها لا تجب إلا على مكلف كالصلاة ، وقال الجمهور -  كمالك   والشافعي   وأحمد   - : بل الزكاة من الحقوق المالية كالعشر وصدقة الفطر ، وهذا قول جمهور الصحابة . 
فإذا كان غير المكلف قد تشتبه بعض الواجبات : هل تجب في ماله أم لا ؟ فكذلك بعض العقوبات قد تشتبه : هل يعاقب بها أم لا ؟ لأن من الواجبات ما يجب في ذمته بالاتفاق ، [ ومنها ما لا يجب في ذمته بالاتفاق ] [21] وبعضها يشتبه : هل هو من هذا أو هذا ؟ 
 [ ص: 50 ] وكذلك العقوبات : منها ما لا يعاقب به [22] بالاتفاق ، كالقتل على الإسلام ، فإن المجنون لا يقتل على الإسلام ، ومنها ما يعاقب به ، كدفع صياله ، ومنها ما قد يشتبه . 
ولا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا ، وكذلك المجنون يضرب على ما فعله [23] لينزجر ، لكن العقوبة [24] التي فيها قتل أو قطع هي التي تسقط عن غير المكلف ، وهذا إنما علم بالشرع ، وليس هو من الأمور الظاهرة حتى يعاب من خفيت عليه حتى يعلمها . 
وأيضا فكثير من المجانين - أو أكثرهم - يكون له حال إفاقة وعقل ، فلعل  عمر  ظن أنها زنت في حال عقلها وإفاقتها ، ولفظ " المجنون " [25] يقال [26] على من به الجنون المطبق [27] ، والجنون الخانق ، ولهذا يقسم الفقهاء المجنون إلى هذين النوعين ، والجنون المطبق قليل ، والغالب هو الخانق . 
وبالجملة فما ذكره من المطاعن في  عمر  وغيره يرجع إلى شيئين : إما نقص العلم ، وإما نقص الدين ، ونحن الآن في ذكره ، فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القسم ودرء الحد [28] ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن  [ ص: 51 ] عادلا بل كان ظالما ، ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل  عمر   - رضي الله عنه - ملأ الآفاق ، وصار يضرب به المثل ، كما قيل : سيرة العمرين ، وأحدهما  عمر بن الخطاب  ، والآخر قيل : إنه  عمر بن عبد العزيز  ، وهو قول  أحمد بن حنبل  وغيره [ من أهل العلم والحديث ] [29]  . وقيل : هو  أبو بكر   وعمر  ، وهو قول أبي عبيدة  وطائفة من أهل اللغة [30] والنحو . 
ويكفي الإنسان أن الخوارج ، الذين هم أشد الناس تعنتا [31] ، راضون عن  أبي بكر   وعمر  في سيرتهما  ، وكذلك الشيعة  الأولى أصحاب علي كانوا يقدمون عليه  أبا بكر   وعمر  ، وروى  ابن بطة  ما ذكره الحسن بن عرفة   : حدثني كثير بن مروان الفلسطيني  [32] ، عن أنس بن سفيان  ، عن غالب بن عبد الله العقيلي  ، قال : لما طعن  عمر  دخل عليه رجال ، منهم  ابن عباس  ،  وعمر  يجود بنفسه وهو يبكي ، فقال له  ابن عباس   : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له  عمر   : أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ، ولا شوقا إليها ، ولكن أخاف هول المطلع ، قال : فقال له  ابن عباس   : فلا تبك يا أمير المؤمنين ، فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ، ولقد  [ ص: 52 ] أمرت فكانت إمارتك فتحا ، ولقد ملأت الأرض عدلا ، وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك [33] وقنعا به . قال : فقال  عمر   : أجلسوني ، فلما جلس قال  عمر   : أعد علي كلامك يا  ابن عباس   . قال : نعم [34] ، فأعاده . فقال  عمر   : أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا  ابن عباس  ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أنا أشهد لك بهذا عند الله ، وهذا علي يشهد لك ،  وعلي بن أبي طالب  جالس ، فقال  علي بن أبي طالب   : نعم يا أمير المؤمنين [35]  . 
وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم ، وليس لهم غرض مع أحد ، بل يرجحون قول هذا الصاحب [36] تارة ، وقول هذا الصاحب [37] تارة ، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع ، كسعيد بن المسيب  ، وفقهاء المدينة  ، مثل  عروة بن الزبير  ،  والقاسم بن محمد  ، وعلي بن الحسين  ، وأبي بكر بن عبد الرحمن  ،  وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة  ،  وسليمان بن يسار  ،  وخارجة بن زيد  ،  وسالم بن عبد الله بن عمر  ، وغير هؤلاء . 
 [ ص: 53 ] ومن بعدهم كابن شهاب الزهري  ، ويحيى بن سعيد  ، وأبي الزناد  ، وربيعة  ،  ومالك بن أنس  ،  وابن أبي ذئب  ،  وعبد العزيز الماجشون  ، وغيرهم . 
ومثل  طاوس اليماني  ،  ومجاهد  ، وعطاء  ،  وسعيد بن جبير  ، وعبيد بن عمير  ،  وعكرمة مولى ابن عباس   . 
ومن بعدهم مثل  عمرو بن دينار  ،  وابن جريج  ،  وابن عيينة  ، وغيرهم من أهل مكة   . 
ومثل  الحسن البصري  ،  ومحمد بن سيرين  ،  وجابر بن زيد أبي الشعثاء  ،  ومطرف بن عبد الله بن الشخير  ، ثم  أيوب السختياني  ، وعبد الله بن عون  ، وسليمان التيمي  ، وقتادة  ،  وسعيد بن أبي عروبة  ،  وحماد بن سلمة  ،  وحماد بن زيد  [38]  . 
وأمثالهم مثل علقمة  ، والأسود  ،  وشريح القاضي  ، وأمثالهم ، ثم  إبراهيم النخعي  ،  وعامر الشعبي  ،  والحكم بن عتيبة  ،  ومنصور بن المعتمر  ، إلى  سفيان الثوري  ،  وأبي حنيفة  ،  وابن أبي ليلى  ، وشريك  ، إلى  وكيع بن الجراح  ،  وأبي يوسف  ،  ومحمد بن الحسن  ، وأمثالهم . 
ثم  الشافعي  ،  وأحمد بن حنبل  ،  وإسحاق بن راهويه  ،  وأبو عبيد القاسم بن سلام  ،  والحميدي عبد الله بن الزبير  ، وأبو ثور  ،  ومحمد بن نصر المروزي  ،  ومحمد بن جرير الطبري  ، وأبو بكر بن المنذر  ، ومن لا  [ ص: 54 ] يحصي عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين ، كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه . 
				
						
						
