الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ومن هذا الباب أمر الشورى ، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله  ؛ فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع ، وقضايا كلية ، وقواعد عامة ، يمتنع أن [ ص: 140 ] ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة ، فلا بد من الاجتهاد في المعينات : هل تدخل في كلماته [1] الجامعة أم لا ؟

                  وهذا الاجتهاد يسمى " تحقيق المناط   " ، وهو مما [2] اتفق عليه الناس كلهم : نفاة القياس ومثبتته ؛ فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل ، فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص . وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها ، فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص ، بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص .

                  والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم ، فليس هو أعظم من الرسول ، ونوابه وعماله ليسوا معصومين ، ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ، ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة ، بل قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يولي الوليد بن عقبة ثم ينزل الله فيه : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ سورة الحجرات : 6 ] [3] .

                  وقد كان يظن أن الحق في قضيته [4] مع بني أبيرق [5] ثم ينزل الله : [ ص: 141 ] ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ سورة النساء : 105 ] الآيات [6] .

                  وأما علي [7] - رضي الله عنه - فظهور الأمر له [8] في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير [ جدا ] [9] ، فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في الجزئيات من المعصومين وغير المعصومين [10] .

                  وفي الصحيح [11] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " [12] .

                  فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده ، ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر [ للحاكم ] [13] .

                  وعمر - رضي الله عنه - إمام ، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين ، فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم ، وهو كما رأى ، فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم . [ وجعل التعيين إليهم خوفا أن [ ص: 142 ] يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم ، فإنه ] [14] ظهر له [15] رجحان الستة دون رجحان التعيين ، وقال : الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم .

                  وهذا أحسن ، اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه .

                  وأيضا فقد قال تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) [ سورة الشورى : 38 ] ، وقال : ( وشاورهم في الأمر ) [ سورة آل عمران : 159 ] . فكان ما فعله من الشورى مصلحة ، وكان ما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - من تعيين عمر هو المصلحة أيضا ؛ فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى ، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين ، فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم [16] مقام عمر ، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له .

                  ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : " أفرس الناس ثلاثة : بنت صاحب مدين حيث قالت : ( ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) [ سورة القصص : 26 ] وامرأة العزيز حيث قالت : ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) [ سورة القصص : 9 ] وأبو بكر حيث استخلف عمر " [17] .

                  [ ص: 143 ] وقالت عائشة - رضي الله عنها - في خطبتها [18] : " أبي وما أبيه [19] والله لا تعطوه [20] الأيدي [21] . ذاك طود منيف [22] ، وفرع [23] مديد . هيهات ! كذبت الظنون ! أنجح [24] إذ أكديتم [25] ، وسبق إذ ونيتم [26] سبق الجواد إذا استولى على الأمد [27] ، فتى قريش ناشئا ، وكهفها كهلا [28] ، يفك عانيها [29] ، ويريش مملقها [30] ، ويرأب شعبها [31] حتى حليته قلوبها [32] ، ثم استشرى [ ص: 144 ] في الله [33] ، فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد [34] ، حتى اتخذ بفنائه مسجدا [35] ، يحيي فيه ما أمات المبطلون . وكان - رحمه الله - غزير الدمعة ، وقيذ الجوانح [36] ، شجي النشيج [37] ، فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها [38] ، يسخرون منه ويستهزئون به ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة البقرة : 15 ] فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها [39] ، وفوقت له سهامها [40] ، وانتبلوه غرضا [41] ، فما فلوا له [ ص: 145 ] صفاة [42] ، ولا قصفوا له قناة ، ومر على سيسائه [43] ، حتى إذا ضرب الدين بجرانه [44] ، وألقى بركه [45] ، ورست [46] أوتاده ، ودخل الناس فيه أفواجا ، ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا [47] ، اختار الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما عنده . فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقه [48] ، ومد طنبه [49] ، ونصب حبائله [50] ، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ، ولات [51] حين الذي يرجون ، وأنى والصديق بين أظهرهم ، فقام حاسرا مشمرا ، فجمع حاشيته ورفع قطريه [52] ، فرد [53] نشر الإسلام على غره [54] ، ولم شعثه [ ص: 146 ] بطبه [55] ، وأقام أوده بثقافه [56] ، فدق [57] النفاق بوطأته ، وانتاش الدين فمنعه [58] ، فلما أراح الحق على أهله [59] ، وقرر [60] الرءوس على كواهلها ، وحقن الدماء في أهبها [61] ، أتته منيته ، فسد ثلمه [62] بنظيره [63] في الرحمة ، وشقيقه في السيرة والمعدلة ، ذاك [64] ابن الخطاب ، [ لله ] [65] أم حملت به [66] ، [ ودرت عليه ] [67] ، لقد أوحدت [68] به ، ففنخ الكفرة وديخها [69] ، وشرد الشرك [70] شذر مذر [71] ، وبعج الأرض وبخعها [72] ، [ ص: 147 ] فقاءت أكلها ، ولفظت خبيئها [73] ، ترأمه ويصدف عنها [74] ، وتصدى له ويأباها ، ثم ورع [75] فيها وودعها كما صحبها . فأروني ما تريبون [76] ، وأي يوم تنقمون [77] : أيوم إقامته إذ عدل فيكم ؟ أم يوم ظعنه وقد [78] نظر لكم ؟ [ أقول قولي هذا و ] أستغفر الله لي ولكم " [79] . وروى هذه الخطبة جعفر بن عون ، عن أبيه ، عن عائشة . وهؤلاء رواة الصحيحين . وقد رواها أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه . وبعضهم رواها عن هشام ، ولم يذكر فيه عروة [80] .

                  وأما عمر - رضي الله عنه - فرأى الأمر في الستة متقاربا ، فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض ، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر ، ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل ، فيكون منسوبا إليه ، فترك التعيين خوفا من الله تعالى ، وعلم أنه ليس واحد [81] أحق بهذا الأمر منهم ، فجمع بين المصلحتين : بين [ ص: 148 ] تعيينهم إذ لا أحق منهم ، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه [82] من التقصير .

                  والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان   . فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة . وإذا كان من الأمور [ أمور ] [83] لا يمكن دفعها ، فتلك لا تدخل في التكليف . وكان كما رآه ، فعلم أنه إن ولى واحدا من الستة ، فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - [84] ، وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة ، كما جبل الله على ذلك [ طباع ] [85] بني آدم وإن كانوا من أولياء الله المتقين . وذكر [ في ] [86] كل واحد من الستة الأمر [87] الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره .

                  ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه ؛ لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره   . والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة ، وأقلهما مفسدة .

                  وعمر - رضي الله عنه - خاف أن يتقلد أمرا يكون فيه ما ذكر ، ورأى أنهم إذا بايعوا واحدا منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان ، وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات : أنه في الحياة يتولى أمر [ ص: 149 ] المسلمين ، فيجب عليه أن يولي عليهم أصلح من يمكنه ، وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف ( * معينا إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم . كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابة الكتاب الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر .

                  وأيضا فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف * ) [88] بعده ، فلم يترك عمر واجبا . ولهذا روجع في استخلاف المعين . وقيل له : أرأيت لو أنك استرعيت ؟ فقال : إن الله تعالى لم يكن يضيع [89] دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى بين هؤلاء [ الستة ] [90] الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض .

                  ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب [91] ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح ، لا لرفع الفساد بالكلية ؛ فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية ؛ إذ لا بد فيها من فساد .

                  ولهذا قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) الآية [ سورة البقرة : 30 ] . ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا وفيها شر وفساد . وأمثل [ ص: 150 ] الأمم قبلنا بنو إسرائيل ، وكان فيهم من الفساد والشر ما قد علم بعضه .

                  وأمتنا خير الأمم وأكرمها على الله ، وخيرها القرون الثلاثة ، وأفضلهم الصحابة . وفي أمتنا شر كثير ، لكنه أقل من شر بني إسرائيل  ، وشر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيا كفرعون وقومه . وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه . وكذلك أول هذه الأمة وآخرها ، فكل خير من المتأخرين ففي المتقدمين ما هو خير منه ، وكل شر في المتقدمين ففي المتأخرين ما هو شر منه . وقد قال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .

                  ولا ريب أن الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، الذين عينهم عمر ، لا يوجد أفضل منهم ، وإن كان في كل منهم ما كرهه ، فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم . ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة ، ولا تولى بعد علي خير منه [92] ، ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه ، كما ذكر الناس سيرته وفضائله .

                  وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب ، فغيرهم أعظم ذنوبا ، وأقل حسنات . فهذا من الأمور التي ينبغي أن تعرف ، فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير [93] ولا يقع على الصحيح . والعاقل يزن الأمور جميعا : هذا وهذا .

                  [ ص: 151 ] وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس ، يعيبون على من يذمونه ما يعاب أعظم منه على من يمدحونه ، فإذا سلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه .

                  وأما ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة ؛ فقد علم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش ، كما استفاضت بذلك السنن   [ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ] [94] . ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " وفي لفظ : " ما بقي منهم اثنان " [95] .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الناس تبع لقريش في هذا الشأن : مؤمنهم تبع لمؤمنهم ، وكافرهم تبع لكافرهم " [96] رواه مسلم .

                  وفي حديث جابر قال : " الناس تبع لقريش في الخير والشر " [97] .

                  وخرج البخاري عن معاوية قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " [98] .

                  [ ص: 152 ] وهذا مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة . فكيف يظن بعمر أنه كان يولي رجلا من غير قريش ؟ ! بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية [99] ، أو يستشيره فيمن يولى ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة ، فإن سالما كان من خيار الصحابة ، وهو الذي كان يؤمهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المهاجرون .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية