ومن هذا الباب أمر الشورى ، فإن - رضي الله عنه - كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله عمر بن الخطاب ؛ فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع ، وقضايا كلية ، وقواعد عامة ، يمتنع أن [ ص: 140 ] ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة ، فلا بد من الاجتهاد في المعينات : هل تدخل في كلماته [1] الجامعة أم لا ؟
وهذا الاجتهاد يسمى " " ، وهو مما تحقيق المناط [2] اتفق عليه الناس كلهم : نفاة القياس ومثبتته ؛ فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل ، فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص . وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها ، فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص ، بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص .
والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم ، فليس هو أعظم من الرسول ، ونوابه وعماله ليسوا معصومين ، ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ، ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة ، بل قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يولي ثم ينزل الله فيه : ( الوليد بن عقبة إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ سورة الحجرات : 6 ] [3] .
وقد كان يظن أن الحق في قضيته [4] مع بني أبيرق [5] ثم ينزل الله : [ ص: 141 ] ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ سورة النساء : 105 ] الآيات [6] .
وأما علي [7] - رضي الله عنه - فظهور الأمر له [8] في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير [ جدا ] [9] ، فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في الجزئيات من المعصومين وغير المعصومين [10] .
وفي الصحيح [11] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار [12] .
فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده ، ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر [ للحاكم ] [13] .
- رضي الله عنه - إمام ، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين ، فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم ، وهو كما رأى ، فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم . [ وجعل التعيين إليهم خوفا أن [ ص: 142 ] يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم ، فإنه ] وعمر [14] ظهر له [15] رجحان الستة دون رجحان التعيين ، وقال : الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم .
وهذا أحسن ، اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه .
وأيضا فقد قال تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) [ سورة الشورى : 38 ] ، وقال : ( وشاورهم في الأمر ) [ سورة آل عمران : 159 ] . فكان ما فعله من الشورى مصلحة ، وكان ما فعله - رضي الله عنه - من تعيين أبو بكر هو المصلحة أيضا ؛ فإن عمر تبين له من كمال أبا بكر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى ، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين ، فإن كل عاقل منصف يعلم أن عمر أو عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير سعدا أو لا يقوم عبد الرحمن بن عوف [16] مقام ، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين عمر في مبايعتهم له . أبي بكر
ولهذا قال - رضي الله عنه - : " أفرس الناس ثلاثة : عبد الله بن مسعود بنت صاحب مدين حيث قالت : ( ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) [ سورة القصص : 26 ] وامرأة العزيز حيث قالت : ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) [ سورة القصص : 9 ] حيث استخلف وأبو بكر " عمر [17] .
[ ص: 143 ] وقالت - رضي الله عنها - في خطبتها عائشة [18] : " أبي وما أبيه [19] والله لا تعطوه [20] الأيدي [21] . ذاك طود منيف [22] ، وفرع [23] مديد . هيهات ! كذبت الظنون ! أنجح [24] إذ أكديتم [25] ، وسبق إذ ونيتم [26] سبق الجواد إذا استولى على الأمد [27] ، فتى قريش ناشئا ، وكهفها كهلا [28] ، يفك عانيها [29] ، ويريش مملقها [30] ، ويرأب شعبها [31] حتى حليته قلوبها [32] ، ثم استشرى [ ص: 144 ] في الله [33] ، فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد [34] ، حتى اتخذ بفنائه مسجدا [35] ، يحيي فيه ما أمات المبطلون . وكان - رحمه الله - غزير الدمعة ، وقيذ الجوانح [36] ، شجي النشيج [37] ، فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها [38] ، يسخرون منه ويستهزئون به ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة البقرة : 15 ] فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها [39] ، وفوقت له سهامها [40] ، وانتبلوه غرضا [41] ، فما فلوا له [ ص: 145 ] صفاة [42] ، ولا قصفوا له قناة ، ومر على سيسائه [43] ، حتى إذا ضرب الدين بجرانه [44] ، وألقى بركه [45] ، ورست [46] أوتاده ، ودخل الناس فيه أفواجا ، ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا [47] ، اختار الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما عنده . فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقه [48] ، ومد طنبه [49] ، ونصب حبائله [50] ، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ، ولات [51] حين الذي يرجون ، وأنى والصديق بين أظهرهم ، فقام حاسرا مشمرا ، فجمع حاشيته ورفع قطريه [52] ، فرد [53] نشر الإسلام على غره [54] ، ولم شعثه [ ص: 146 ] بطبه [55] ، وأقام أوده بثقافه [56] ، فدق [57] النفاق بوطأته ، وانتاش الدين فمنعه [58] ، فلما أراح الحق على أهله [59] ، وقرر [60] الرءوس على كواهلها ، وحقن الدماء في أهبها [61] ، أتته منيته ، فسد ثلمه [62] بنظيره [63] في الرحمة ، وشقيقه في السيرة والمعدلة ، ذاك [64] ابن الخطاب ، [ لله ] [65] أم حملت به [66] ، [ ودرت عليه ] [67] ، لقد أوحدت [68] به ، ففنخ الكفرة وديخها [69] ، وشرد الشرك [70] شذر مذر [71] ، وبعج الأرض وبخعها [72] ، [ ص: 147 ] فقاءت أكلها ، ولفظت خبيئها [73] ، ترأمه ويصدف عنها [74] ، وتصدى له ويأباها ، ثم ورع [75] فيها وودعها كما صحبها . فأروني ما تريبون [76] ، وأي يوم تنقمون [77] : أيوم إقامته إذ عدل فيكم ؟ أم يوم ظعنه وقد [78] نظر لكم ؟ [ أقول قولي هذا و ] أستغفر الله لي ولكم " [79] . وروى هذه الخطبة جعفر بن عون ، عن أبيه ، عن . وهؤلاء رواة الصحيحين . وقد رواها عائشة أبو أسامة ، عن ، عن أبيه . وبعضهم رواها عن هشام بن عروة ، ولم يذكر فيه هشام عروة [80] .
وأما - رضي الله عنه - فرأى الأمر في الستة متقاربا ، فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض ، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر ، ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل ، فيكون منسوبا إليه ، فترك التعيين خوفا من الله تعالى ، وعلم أنه ليس واحد عمر [81] أحق بهذا الأمر منهم ، فجمع بين المصلحتين : بين [ ص: 148 ] تعيينهم إذ لا أحق منهم ، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه [82] من التقصير .
. فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة . وإذا كان من الأمور [ أمور ] والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان [83] لا يمكن دفعها ، فتلك لا تدخل في التكليف . وكان كما رآه ، فعلم أنه إن ولى واحدا من الستة ، فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر - رضي الله عنهما - وعمر [84] ، وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة ، كما جبل الله على ذلك [ طباع ] [85] بني آدم وإن كانوا من أولياء الله المتقين . وذكر [ في ] [86] كل واحد من الستة الأمر [87] الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره .
ثم رضي الله عنه ؛ لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره عثمان . والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة ، وأقلهما مفسدة . إن الصحابة اجتمعوا على
- رضي الله عنه - خاف أن يتقلد أمرا يكون فيه ما ذكر ، ورأى أنهم إذا بايعوا واحدا منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان ، وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات : أنه في الحياة يتولى أمر [ ص: 149 ] المسلمين ، فيجب عليه أن يولي عليهم أصلح من يمكنه ، وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف ( * معينا إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم . كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أنهم يجتمعون على وعمر استغنى بذلك عن كتابة الكتاب الذي كان قد عزم على أن يكتبه أبي بكر . لأبي بكر
وأيضا فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف * ) [88] بعده ، فلم يترك واجبا . ولهذا روجع في استخلاف المعين . وقيل له : أرأيت لو أنك استرعيت ؟ فقال : إن الله تعالى لم يكن يضيع عمر [89] دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى بين هؤلاء [ الستة ] [90] الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض .
ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب [91] ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح ، لا لرفع الفساد بالكلية ؛ فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية ؛ إذ لا بد فيها من فساد .
ولهذا قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) الآية [ سورة البقرة : 30 ] . ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا وفيها شر وفساد . وأمثل [ ص: 150 ] الأمم قبلنا بنو إسرائيل ، وكان فيهم من الفساد والشر ما قد علم بعضه .
بني إسرائيل ، وشر وأمتنا خير الأمم وأكرمها على الله ، وخيرها القرون الثلاثة ، وأفضلهم الصحابة . وفي أمتنا شر كثير ، لكنه أقل من شر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيا كفرعون وقومه . وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه . وكذلك أول هذه الأمة وآخرها ، فكل خير من المتأخرين ففي المتقدمين ما هو خير منه ، وكل شر في المتقدمين ففي المتأخرين ما هو شر منه . وقد قال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .
ولا ريب أن الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، الذين عينهم ، لا يوجد أفضل منهم ، وإن كان في كل منهم ما كرهه ، فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم . ولهذا لم يتول بعد عمر خير منه ولا أحسن سيرة ، ولا تولى بعد عثمان خير منه علي [92] ، ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من رضي الله عنه ، كما ذكر الناس سيرته وفضائله . معاوية
وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب ، فغيرهم أعظم ذنوبا ، وأقل حسنات . فهذا من الأمور التي ينبغي أن تعرف ، فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير [93] ولا يقع على الصحيح . والعاقل يزن الأمور جميعا : هذا وهذا .
[ ص: 151 ] وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس ، يعيبون على من يذمونه ما يعاب أعظم منه على من يمدحونه ، فإذا سلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه .
وأما ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة ؛ فقد علم أن وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن عمر قريش ، كما استفاضت بذلك السنن [ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ] الإمامة في [94] . ففي الصحيحين عن - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عبد الله بن عمر قريش ما بقي في الناس اثنان " وفي لفظ : " ما بقي منهم اثنان " لا يزال هذا الأمر في [95] .
وفي الصحيحين عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة لقريش في هذا الشأن : مؤمنهم تبع لمؤمنهم ، وكافرهم تبع لكافرهم " الناس تبع [96] رواه . مسلم
وفي حديث قال : " جابر لقريش في الخير والشر " الناس تبع [97] .
وخرج عن البخاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " معاوية قريش ، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " إن هذا الأمر في [98] .
[ ص: 152 ] وهذا مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة . فكيف يظن أنه كان يولي رجلا من غير بعمر قريش ؟ ! بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية [99] ، أو يستشيره فيمن يولى ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها ، فإن سالم مولى أبي حذيفة سالما كان من خيار الصحابة ، وهو الذي كان يؤمهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المهاجرون .