الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 364 ] وقول هذا الرافضي : " انظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل [1] ، هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم ؟ " .

                  فالجواب أن يقال : أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة ، فإنهم أساس كل فتنة وشر ، وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان .

                  وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ثلاث من نجا منهن فقد نجا : موتي ، وقتل خليفة مضطهد بغير حق ، والدجال " [2] .

                  ومن [3] استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد ، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك ، إذ يقول تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ سورة آل عمران : 110 ] .

                  كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى ، وأبعد عن التفرق والاختلاف ، من هذه الأمة ، لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله ، الذي هو كتابه المنزل ، وما جاء به من نبيه المرسل . وكل من كان أقرب إلى الاعتصام [ ص: 365 ] بحبل الله ، وهو اتباع الكتاب والسنة ، كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة .

                  واعتبر ذلك بالأمم ، فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب ، والمسلمون أكثر اتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى ، فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل ، وأظهروا الباطل ، وعادوا الحق وأهله .

                  وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن الناس ؟ " [4] .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع " . قالوا : فارس والروم ؟ قال : " فمن الناس إلا أولئك ؟ " [5] .

                  لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق ، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة . ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من [ ص: 366 ] غيرهم فيجتاحهم ، كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه : " لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة " [6] . وأخبر أنه : " سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه [7] ذلك ، وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه [8] ، ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك " [9] .

                  ومن قبلنا كان الحق [10] يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة . ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم ، كما سلط علىبني إسرائيل ، وخرب بيت المقدس مرتين ، فلم [11] يبق لهم ملك .

                  ونحن - ولله الحمد - لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق ، فيكونون على الهدى ودين الحق ، الذي بعث الله به الرسول . فلهذا لم نزل ولا نزال . وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة ، لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة .

                  وخيار هذه الأمة هم الصحابة ، فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ، ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم . وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير . وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم [ ص: 367 ] كان قليلا من كثير . وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ، ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض . وهذا من الجهل والظلم ، بل يوزن هؤلاء بنظرائهم ، فيظهر الفضل والرجحان .

                  وأما ما يقترحه [12] كل أحد في نفسه مما لم يخلق ، فهذا لا اعتبار به . فهذا يقترح معصوما في الأئمة ، وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما ، فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك ، مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه ، وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير ، يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفي عليه شيء ، ولا يخطئ في مسألة [13] ، وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب ، بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم [14] ما لا يقترح في الأنبياء .

                  وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا : ( لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ) [ سورة هود : 31 ] فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه ، قادرا على كل ما يطلب منه ، غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة .

                  وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة ، أن لا يكون لأحدهم ذنب ، ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار .

                  [ ص: 368 ] وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله ، وخلاف ما شرعه الله .

                  فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه ، كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله ، وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له .

                  والبدع مشتقة من الكفر ، فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر .

                  وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة ، فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم . فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل ، وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله ، وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة . وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة .

                  فليس الضلال والغي [15] في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه [ في ] الرافضة [16] ، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة ، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم خاصته ، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ، ومقصودهم نصر الله ورسوله .

                  وإذا [17] كان الصحابة ، ثم أهل الحديث والسنة المحضة ، أولى [ ص: 369 ] بالهدى ودين الحق وأبعد [18] الطوائف عن الضلال والغي [19] ، فالرافضة بالعكس .

                  وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل [20] فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ، ولا يحتج به إلا من هو جاهل ، وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال ، وأنه دخل في هواهم [21] بما ذكره في هذا الكتاب ، مع أنه ليس من علماء النقل والآثار ، وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار .

                  ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب [22] ، فقد خرج عن جملة أولي الألباب . ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ، ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها [23] ، كالصحاح والسنن والمساند ، والمعجمات والأسماء والفضائل ، وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك ، وكتب السير والمغازي ، وإن كانت دون ذلك ، وكتب التفسير والفقه ، وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني [24] ضد [25] ما في النقل الباطل ، وعلم أن [ ص: 370 ] الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وأن أصل كل [26] فتنة وبلية هم الشيعة و [ من ] انضوى [27] إليهم ، وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم ، وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون ، اختلقوا أكاذيب ، وابتدعوا آراء فاسدة ، ليفسدوا بها دين الإسلام ، ويستزلوا بها من ليس من أولي [28] الأحلام ، فسعوا في قتل عثمان ، وهو أول الفتن ثم انزووا إلى علي ، لا حبا فيه ولا في أهل البيت ، لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين .

                  ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله ، كما فعلت الخوارج ، وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ، ومنهم من أظهر الطعن على [29] الخلفاء الثلاثة ، كما فعلت الرافضة ، وبهم تسترت الزنادقة ، كالغالية من النصيرية وغيرهم ، ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم ، فهم منشأ كل فتنة ، والصحابة - رضي الله عنهم - منشأ كل علم وصلاح ، وهدى ورحمة في الإسلام .

                  ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين ، كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ، ويقولون : إنهم كانوا مظلومين ، كما ذكر صاحب هذا الكتاب ، وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ، ومنهم من يقول : اللهم ارض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه . ومنهم من يقول في بعض [ ص: 371 ] ما يفعله من [30] محاربتهم : واثارات أبي لؤلؤة ! كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره .

                  وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام ، كان مجوسيا من عباد النيران ، وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة ، وكان يصنع الأرحاء [31] ، وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم ، وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة ، وإذا رأى سبيهم يقدم إلى [32] المدينة ، يبقى [33] في نفسه من ذلك .

                  وقد روي أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه ، فتوقف عمر ، وكان من نيته أن يكلمه ، فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله ، وحبا للمجوس ، وانتقاما للكفار ، لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم ، وقتل رؤساءهم ، وقسم أموالهم .

                  كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول : " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده . والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " [34] وعمر هو الذي أنفق كنوزهما ، وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحة [ ص: 372 ] خلافته ، وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله ، الذي هو طاعته وطاعة رسوله ، وما يقرب إلى الله ، لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة ، فضلا عن المحرمة ، فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله ، وبغضا في الإسلام ، ومفرط [35] في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ؟ .

                  ودع ما يسمع وينقل عمن خلا ، فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه ، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام ، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة ، وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا ، وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة .

                  ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان [36] في زماننا ، من حين خرج [37] جنكزخان [38] ملك الترك الكفار ، وما جرى في الإسلام من الشر .

                  فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين ، الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ، ولا يصومون شهر [39] رمضان ، ولا يحجون البيت العتيق ، ولا يؤمنون بالله ، ولا بملائكته ، ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر .

                  [ ص: 373 ] وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا ، له رئي [40] من الجن ، وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب .

                  فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام ، وعلى أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم ، كذرية العباس وغيرهم ، بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء واستحلال فروجهن ، وسبي الصبيان واستعبادهم ، وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر ، وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة ، وتعظيم بيوت الأصنام - التي يسمونها البذخانات [41] والبيع والكنائس - على المساجد ، ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين ، بحيث يكون المشركون [42] وأهل الكتاب أعظم عزا ، وأنفذ كلمة ، وأكثر حرمة من المسلمين ، إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما جرى [43] على أمته من هذا ، كان كراهته [44] له ، وغضبه منه ، أعظم من كراهته [45] لاثنين مسلمين تقاتلا على الملك ، ولم يسب [ ص: 374 ] أحدهما حريم الآخر ، ولا نفع [46] كافرا ، ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة ، وشعائره الظاهرة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية