الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 395 ] وهذا يتبين : بالوجه الرابع : وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم ، لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى ، إذ كان [1] وجوده لم يدفع شيئا من الشر ، حتى يقال : وجوده دفع كذا . بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور ، وعادوا شيعته ، وظلموه وظلموا أصحابه ، وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله ، بتقدير أن يكون معصوما .

                  فإنه بتقدير أن لا يكون علي - رضي الله عنه - معصوما ، ولا بقية الاثني عشر ونحوهم ، لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة ، وبني أمية ، وبني العباس ، فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة [2] معصومين ( * وبتقدير كونهم [3] معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم ، فصار كونهم معصومين * ) [4] إنما حصل به الشر لا الخير .

                  فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير ، وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير ؟

                  وإذا قيل : هذا الشر حصل من ظلم الناس له .

                  قيل : فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم ، وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم ، لم يكن خلقه حكمة بل سفها ، وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه ، وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده ، فهل يفعل هذا حكيم ؟

                  ومثل أن يبني إنسان خانا في الطريق لتأوي إليه القوافل ، ويعتصموا [ ص: 396 ] به من الكفار وقطاع الطريق ، وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا ، والقطاع مأوى لهم .

                  ومثل من يعطي رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين ، وهو يعلم أنه [5] إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول .

                  ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية . فلما كان أولئك يوجبون على الله ( * الصلاح والأصلح [6] أخذ هؤلاء ذلك منهم . وأصل أولئك في أنه يجب على الله * ) [7] أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه ، [ وهو ] [8] أصل فاسد ، وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم [9] في دينهم ودنياهم .

                  والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال : فالقدرية يقولون : يجب على الله رعاية الأصلح - أو الصلاح - في كل شخص معين ، ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان . فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس ، فيما يجب عليه ويحرم عليه ، وكانوا هم مشبهة الأفعال ، فغلطوا [10] من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية ، وبين مصلحة آحاد الناس ، التي قد [11] تكون مستلزمة لفساد عام ، ومضادة لصلاح عام .

                  [ ص: 397 ] والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة ، بل عندهم يفعل بمشيئة محضة ، لا لها حكمة ولا رحمة . والجهم بن صفوان رأس هؤلاء ، كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم : فيقول : أرحم الراحمين يفعل هذا ؟ ! يريد أنه ليس له رحمة .

                  فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين .

                  والثالث : قول الجمهور : إن الله عليم حكيم رحيم ، قائم بالقسط . وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وهو أرحم بعباده [12] من الوالدة بولدها ، كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة ، وكما يشهد به الاعتبار [13] حسا وعقلا ، وذلك واقع منه بحكمته ورحمته ، وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة ، وحرم على نفسه الظلم ، لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ، ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم ، بل كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، وليس لمخلوق عليه حق ، إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة ، كقوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] ، وقوله : ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) [ سورة الروم : 47 ] وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ، وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته ، وهذا [14] فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع .

                  ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح ، يقولون : إنما خلقهم لتعريضهم للثواب .

                  [ ص: 398 ] فإذا قيل لهم : فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له [15] ، بل يفعل ما يضره ، فكان كمن يعطي شخصا مالا لينفقه [16] في سبيل الله ، وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم .

                  قالوا : المكلف إنما أتي من جهة نفسه ، فهو الذي فرط بترك الطاعة .

                  أجابهم أهل السنة بجوابين : أحدهما : مبني على إثبات العلم . والثاني : مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة ، وأنه خالق كل شيء .

                  فقالوا : على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم [17] يحصل ، لم يكن فعله حكمة ، وإن كان بتفريط غيره .

                  والثاني : أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو خالق كل شيء ، وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب ، فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق . وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة .

                  ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية ، وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير [18] ، فيقولون : إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه . وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع ، [ ص: 399 ] فيقولون يجب عليه كذا ، فلابد أن يكون قد فعل الواجب ، وليس هذا إلا هكذا .

                  والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع . فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا ، لم يمكن إثبات لازمها ، وهو الوسيلة ، فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم ، فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا ، لم يمكن إثبات لازمه .

                  ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا ، أو نقول [19] : الواجب من الجملة [20] لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب [21] معاوية .

                  وقول الرافضة [22] من جنس قول النصارى : إن الإله تجسد ونزل ، وإنه أنزل ابنه ليصلب ، ويكون الصلب مغفرة لذنب آدم ، ليدفع الشيطان بذلك لهم .

                  فقيل لهم : إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية ، فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه ، وهو مع ذلك لم يغير الشر ، بل زاد على ما كان ، فكيف يفعل شيئا لمقصود ، والحاصل إنما هو ضد المقصود ؟ ! .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية