[ ص: 395 ] وهذا يتبين : بالوجه الرابع : وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم ، لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى ، إذ كان [1] وجوده لم يدفع شيئا من الشر ، حتى يقال : وجوده دفع كذا . بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور ، وعادوا شيعته ، وظلموه وظلموا أصحابه ، وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله ، بتقدير أن يكون معصوما .
فإنه بتقدير أن لا يكون - رضي الله عنه - معصوما ، ولا بقية الاثني عشر ونحوهم ، لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة ، علي وبني أمية ، وبني العباس ، فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة [2] معصومين ( * وبتقدير كونهم [3] معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم ، فصار كونهم معصومين * ) [4] إنما حصل به الشر لا الخير .
فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير ، وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير ؟
وإذا قيل : هذا الشر حصل من ظلم الناس له .
قيل : فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم ، وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم ، لم يكن خلقه حكمة بل سفها ، وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه ، وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده ، فهل يفعل هذا حكيم ؟
ومثل أن يبني إنسان خانا في الطريق لتأوي إليه القوافل ، ويعتصموا [ ص: 396 ] به من الكفار وقطاع الطريق ، وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا ، والقطاع مأوى لهم .
ومثل من يعطي رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين ، وهو يعلم أنه [5] إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول .
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية . فلما كان أولئك يوجبون على الله ( * الصلاح والأصلح [6] أخذ هؤلاء ذلك منهم . وأصل أولئك في أنه يجب على الله * ) [7] أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه ، [ وهو ] [8] أصل فاسد ، وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم [9] في دينهم ودنياهم .
والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال : فالقدرية يقولون : يجب على الله رعاية الأصلح - أو الصلاح - في كل شخص معين ، ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان . فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس ، فيما يجب عليه ويحرم عليه ، وكانوا هم مشبهة الأفعال ، فغلطوا [10] من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية ، وبين مصلحة آحاد الناس ، التي قد [11] تكون مستلزمة لفساد عام ، ومضادة لصلاح عام .
[ ص: 397 ] والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة ، بل عندهم يفعل بمشيئة محضة ، لا لها حكمة ولا رحمة . رأس هؤلاء ، كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم : فيقول : أرحم الراحمين يفعل هذا ؟ ! يريد أنه ليس له رحمة . والجهم بن صفوان
فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين .
والثالث : قول الجمهور : إن الله عليم حكيم رحيم ، قائم بالقسط . وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وهو أرحم بعباده [12] من الوالدة بولدها ، كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة ، وكما يشهد به الاعتبار [13] حسا وعقلا ، وذلك واقع منه بحكمته ورحمته ، وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة ، وحرم على نفسه الظلم ، لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ، ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم ، بل كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، وليس لمخلوق عليه حق ، إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة ، كقوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] ، وقوله : ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) [ سورة الروم : 47 ] وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ، وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته ، وهذا [14] فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع .
ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح ، يقولون : إنما خلقهم لتعريضهم للثواب .
[ ص: 398 ] فإذا قيل لهم : فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له [15] ، بل يفعل ما يضره ، فكان كمن يعطي شخصا مالا لينفقه [16] في سبيل الله ، وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم .
قالوا : المكلف إنما أتي من جهة نفسه ، فهو الذي فرط بترك الطاعة .
أجابهم أهل السنة بجوابين : أحدهما : مبني على إثبات العلم . والثاني : مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة ، وأنه خالق كل شيء .
فقالوا : على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم [17] يحصل ، لم يكن فعله حكمة ، وإن كان بتفريط غيره .
والثاني : أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو خالق كل شيء ، وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب ، فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق . وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة .
ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية ، وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير [18] ، فيقولون : إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه . وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع ، [ ص: 399 ] فيقولون يجب عليه كذا ، فلابد أن يكون قد فعل الواجب ، وليس هذا إلا هكذا .
والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع . فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا ، لم يمكن إثبات لازمها ، وهو الوسيلة ، فإنا . نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم ، فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا ، لم يمكن إثبات لازمه
ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا ، أو نقول [19] : الواجب من الجملة [20] لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب [21] . معاوية
وقول الرافضة [22] من جنس قول النصارى : إن الإله تجسد ونزل ، وإنه أنزل ابنه ليصلب ، ويكون الصلب مغفرة لذنب آدم ، ليدفع الشيطان بذلك لهم .
فقيل لهم : إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية ، فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه ، وهو مع ذلك لم يغير الشر ، بل زاد على ما كان ، فكيف يفعل شيئا لمقصود ، والحاصل إنما هو ضد المقصود ؟ ! .