فإنه يعلم بصريح المعقول أن فاعل إذا قيل : إنه علة تامة أزلية ، والعلة التامة تستلزم معلولها لزم أن لا يتخلف عنه في القدم شيء من المعلول ، فلا يحدث عنه شيء لا بواسطة ولا بغير واسطة العالم [1] ، ويمتنع أن يصير علة لمفعول بعد مفعول من غير أن يقوم به ما يصير علة للثاني ، فيمتنع مع تماثل أحواله أن تختلف مفعولاته ويحدث منها شيء .
وهذا مما لا ينازع فيه عاقل تصوره [2] تصورا جيدا ، وحذاقهم معترفون بهذا ، كما يذكره ابن رشد الحفيد وأبو عبد الله الرازي [3] وغيرهما من أن صدور المتغيرات المختلفة عن الواحد البسيط مما تنكره العقول ، [ وكذلك إذ سمي موجبا بالذات ] [4] ، وكذلك إذا قيل : مؤثر تام التأثير في الأزل ، أو مرجح تام الترجيح في الأزل ، أو نحو ذلك ، وكذلك إذا قيل : هو قادر مختار يستلزم وجود مراده في الأزل ، فإنه إذا استلزم وجود مراده في الأزل لزم أن لا يحدث شيء من مراده ، فلا يحدث في العالم شيء ؛ إذ لا يحدث شيء إلا بإرادته ، فلو كانت إرادته أزلية مستلزمة لوجود مرادها معها في الأزل لزم أن لا يكون شيء من المرادات حادثا ، [ ص: 324 ] فلا يكون في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة .
وهم لا يقولون به ولا [5] يقول عاقل : إنه علة تامة أزلية لجميع معلولاتها ، ولا موجب أزلي لجميع العالم حتى أشخاصه . ولا يقول أحد : إن جميع مراده مقارن له في الأزل ، بل يقولون إن أصول العالم كالأفلاك والعناصر هي الأزلية القديمة [6] بأعيانها ، وإن الحركات والمولدات قديمة النوع ، أو يقولون : إن مواد هذا العالم كالجواهر المفردة [7] أو الهيولى أو غير ذلك هي قديمة أزلية بأعيانها . وهذا كله باطل ؛ إذ كان قدم شيء من ذلك يستلزم أن يكون فاعله مستلزما له في الأزل ، سواء سمي موجبا له بذاته في الأزل ، أو علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها أو قيل : إنه فاعل بإرادته الأزلية [ المستلزمة ] [8] للمفعول المراد في الأزل .