وإذا 0 قيل : تغير فعله لتغير المفعولات
قيل : فعله إن كان هو المفعولات عندكم - كما يقوله ونحوه من جهمية الفلاسفة نفاة الصفات والأفعال - فالمتغير هو المنفصلات عنه ، وهي المفعولات ، وليس هنا فعل هو غيرها يوصف بالتغير ، فما الموجب لتغيرها واختلافها وحدوث ما يحدث منها مع [ أن ] ابن سينا [1] الفاعل هو على حال واحدة ؟ ! وفساد [2] هذا في صريح العقل أظهر من فساد ما أنكرتموه على غيركم .
وإن كان فعله قائما بنفسه كما يقوله مثبتة الأفعال الاختيارية من أئمة أهل الملل [ ومن الفلاسفة ] [3] المتقدمين والمتأخرين ، فمن المعلوم أن تغير المفعولات إنما سببه [4] هذه الأفعال [ ص: 335 ] وهو سبحانه المحدث لجميع المفعولات المتغيرة وتغيراتها ، فيمتنع أن تكون هي المؤثرة في تغير فعله القائم بنفسه ؛ لأن هذا يوجب كون المعلول المخلوق المصنوع هو المؤثر في الخالق الصانع الذي يسمونه علة [ تامة ] [5] ، وهذا يوجب الدور الممتنع ، فإن كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر من غير أن يكون هناك أمر ثالث غيرهما يؤثر [6] فيهما هو من الدور القبلي الممتنع ، فإن أحد الفاعلين لا يفعل في الآخر حتى يفعل الآخر فيه كما في هذه الصورة ، فإن التغير الحادث لا يحدث حتى يحدثه هو ؛ لما يقوم به من الفعل ، فلو كان ذلك الفعل لا يقوم[7] حتى يحدثه ذلك التغير لزم أن لا يوجد حتى يوجد ذاك ، ولا يوجد ذاك حتى يوجد هذا ، فيلزم أن لا يوجد واحد منهما حتى يوجد هو قبل أن يوجد بمرتبتين ، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين .
وإن قيل : المفعول المتغير الأول أحدث في الفاعل تغيرا ، وذلك التغير أوجب تغيرا ثانيا 0
قيل : فذلك الأول إنما صدر عن فعل قائم [8] بالفاعل ، فالفاعل ما قام به من الفعل هو الفاعل لكل ما سواه من الحوادث المتغيرة أولا وآخرا ، ولم يؤثر فيه غيره ألبتة .
وإن قيل : وجود مفعوله الثاني مشروط بمفعوله الأول ، فهو الفاعل للأول والثاني ، فلم يحتج في شيء من فعله إلى غيره ، ولا أثر فيه [ ص: 336 ] [ شيء ] [9] . سواه وهذا كما أنه سبحانه يلهم العباد أن يدعوه [ فيدعونه ] [10] فيستجيب لهم ، ويلهمهم أن يطيعوه فيطيعونه فيثيبهم ، فهو سبحانه الفاعل للإجابة والإثابة كما أنه أولا جعل العباد داعين مطيعين ، ولم يكن في شيء من ذلك مفتقرا إلى غيره ألبتة .
وكل من تدبر هذه الأمور تبين له أنه سبحانه خالق كل شيء من الأعيان وصفاتها وأفعالها بأفعاله الاختيارية القائمة بنفسه كما دلت على ذلك نصوص الأنبياء ، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ، ووافقهم على ذلك أساطين الفلاسفة القدماء ، وهذا مما يبين حدوث كل ما سواه وأنه ليس علة أزلية لمعلول قديم مع أنه دائم الفاعلية ، ولا يلزم من دوام كونه فاعلا أن يكون معه مفعول معين قديم ، بل هذا من أبطل الباطل .
وهؤلاء المتفلسفة القائلون بقدم العالم عن موجب بذاته هو علة تامة أزلية [ له ] [11] يسلمون أنه ليس علة تامة في الأزل لكل حادث ، فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول ، فإن هي التي تستلزم معلولها وتستعقبه ، فإذا كان المعلول حادثا بعد أن لم يكن لم يكن المستلزم له أزليا ؛ لما في ذلك من تأخر المعلول العلة التامة [12] وتراخيه زمانا لا نهاية له عن العلة التامة الأزلية ، فإن كل حادث يوجد في العالم متأخر [13] عن الأزل تأخرا لا نهاية له ، فلو كانت علته التامة ثابتة في الأزل لكان المعلول [ ص: 337 ] متأخرا عن العلة التامة تأخرا لا نهاية له ، والعلة التامة لا يكون بينها وبين معلولها فصل أصلا ، بل النزاع : هل يكون معها في الزمان أو يكون عقبها في الزمان [14] ، ويكون معها [15] كالجزء الثاني من الزمان مع الذي قبله ؟ . هذا مما يتكلم فيه الناس إذ كانوا [16] متفقين على أنه متأخر عنها [17] تأخرا عقليا وأنه لا ينفصل عنها . وهل يتصل بها اتصالا زمانيا أو يقترن بها اقترانا زمانيا ؟ هذا محل نظر الناس [18] .
والمقصود هنا أن كل ما يحدث العالم فلا تكون علته التامة المستلزمة تامة [19] قبله بحيث يكون بينهما انفصال ، فكيف تتقدم عليه [20] تقدما لا نهاية له ؟ لكن غاية ما يقولون : إنه علة تامة أزلية لما كان قديما من العالم كالأفلاك ، وأما ما يحدث فيه فإنما يصير علة تامة له عند حدوثه .
ويقولون : إن حدوث الأول شرط في حدوث الثاني كالماشي الذي يقطع أرضا بعد أرض ، وكحركة الشمس [ التي ] تقطع [21] بها مسافة بعد مسافة ، كالمتحرك [22] لا يقطع المسافة الثانية حتى يقطع الأولى ، فقطع [ ص: 338 ] الأولى بحركته شرط في قطع الثانية بحركته ، والعلة التامة لقطع الثانية إنما وجدت بعد الأولى . وهذا غاية ما يقولونه ويعبرون عنه بعبارات ، فتارة [23] يقولون : فيض العلة الأولى والمبدأ الأول أو واجب الوجود - وهو الله تعالى - دائم ، لكن يتأخر ليحصل الاستعداد والقوابل ، وسبب الاستعداد والقوابل [ عند ] [24] كثير منهم - أو أكثرهم - هو حركة الفلك ، فليس عند هؤلاء سبب لتغيرات العالم إلا حركة الفلك - كما يقوله وأمثاله - وهذا هو المعروف عند أصحاب ابن سينا أرسطو .
وأما آخرون أعلى من هؤلاء - كأبي البركات وغيره - فيقولون : بل سبب التغيرات ما يقوم بذات الرب من إرادات متجددة ، بل ومن إدراكات ، كما قد بسطه في كتابه المعتبر .
فأولئك - وأمثاله - يقولون : هو بنفسه علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة ، وإن الحادث الأول كان شرطا أعد القابل كابن سينا [25] للحادث الثاني . وهذا القول في غاية الفساد ، وهو أيضا في غاية المناقضة لأصولهم ، وذلك أن علة الحادث الثاني لا بد أن تكون بتمامها موجودة عند وجوده ، وعند وجود الحادث الثاني [26] لم يتجدد للفاعل الأول أمر به يفعل إلا عدم الأول ، ومجرد عدم الأول لم يوجد عندهم للفاعل لا قدرة ولا إرادة ولا [ ص: 339 ] غير ذلك ، فإن الأول عندهم لا يقوم به شيء من الصفات والأفعال ، ولا له أحوال متنوعة أصلا ، فكيف يتصور [27] أن يصدر عنه الثاني بعد أن كان صدوره ممتنعا منه وحاله حاله لم يتجدد إلا أمر عدمي لم يوجب له زيادة قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك ؟ .
وهذا بخلاف [28] ما يمثلون به من حركة الإنسان وغيره من المتحركة [29] بالإرادة أو [30] بالطبع ، فإن المتحرك إذا قطع المسافة [ الأولى ] [31] صار له من القدرة ما لم يكن له [32] قبل ذلك ، وحصل عنده من الإرادة ما لم يكن قبل ذلك ، كما يجده الإنسان من نفسه إذا مشى ، فإنه يجد من نفسه عجزا عن قطع المسافة البعيدة حتى يصل إليها ، وهو قبل وصوله عازم على قطعها ، إذا وصل ليس هو مريدا في هذا [33] الحال لقطعها في هذا [34] الحال ، فإذا وصل إليها صار مريدا لقطعها قادرا على قطعها ، وعند الإرادة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المراد ، فحينئذ تقطع لا لمجرد عدم الحركة التي بها قطع الأولى بل لما تجدد له من القدرة والإرادة ، فهذا [35] المتجدد المقتضي له هو ما في نفسه من الإرادة الكلية [ ص: 340 ] والاستعداد للقدرة ، وكان قطع الأولى مانعا من ذلك ، فلما زال المانع [36] عمل المقتضي عمله ، فتمت إرادته وقدرته فقطع المسافة .
وهكذا حركة الحجر من فوق إلى أسفل ، كلما نزل تجدد فيه قوة ، وقبل [ ذلك ] [37] لم يكن فيه ذلك .
وكذلك حركة الشمس والكواكب ، لا سيما وهم يقولون : إن حركتها اختيارية ؛ لما يتجدد [ لها ] [38] من التصورات الجزئية والإرادات الجزئية التي تحدث لها [39] شيئا فشيئا ، هكذا صرح به أئمتهم : أرسطو وغيره ، فإن حركتها عندهم نفسانية ، فالمقتضى التام للجزء الثاني من الحركة إنما وجد عنها [40] ، لم يكن المقتضى التام موجودا قبل ، وهو قائم بنفس المتحرك أو المحرك وهو النفس التي يتجدد لها تصورات وإرادات جزئية وقوة جزئية يتحرك بها [41] شيئا بعد شيء كحركة الماشي ، فلا يمكنهم أن يذكروا محركا ولا متحركا حاله قبل الحركة [42] وبعدها سواء والحركة تصدر عنه شيئا فشيئا ، فإن هذا لا وجود له ، والعقل الصريح يحيل ذلك ، فإن الحادث لا يحدث إلا عند حدوث موجبه التام ، وهو علته التامة ، وإن شئت قلت : لا يترجح إلا إذا وجد مرجحه التام المستلزم له 0
[ ص: 341 ] والمسلمون يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فالحركة الثانية لو كان مرجحها التام حاصلا عند الأولى لوجب [43] حصولها عند الأولى ، بل إنما يتم حصولها عند حصول المرجح التام ، إما مقترنة به في الزمان أو متصلة به في الزمان ، وإذا كان المرجح التام لا بد أن يحصل بعد أن لم يكن حاصلا ، فلا بد أن يحصل للحركة سبب حادث يوجب أن يصيرها حادثة بعد أن لم تكن حادثة ، وكذلك السبب الأول القريب من الحركة .
وإن كان الفاعل له إرادة [ تامة ] [44] عامة كلية لما يحدث شيئا بعد شيء ، فتلك وحدها لا تكفي ، بل لا بد من إرادة أخرى جزئية لحادث حادث [45] يقارنه ، كما يجده الإنسان في نفسه إذا مشى في سفر أو غيره [46] إلى مكة أو غيرها ، فلا ريب أن المقتضى العام إما بإرادة أو غيرها قد يكون مقتضاه عاما مطلقا ، لكن يتأخر لتأخر الاستعدادات والقوابل إذا كانت من غيره ، كما في طلوع الشمس ، فإنه من جهتها فيض عام ، لكن يتوقف على استعداد [ من ] [47] القوابل وارتفاع الموانع ، ولهذا يختلف تأثيرها ويتأخر بحسب القوابل والشروط ، وتلك ليست منها .
وكذلك هم يقولون : [48] إن العقل الفعال دائم الفيض ، عنه يفيض كل [ ص: 342 ] ما في العالم من الصور [49] النفسانية والجسمانية ، فعنه [50] تفيض العلوم والإرادات وغير ذلك ، وهم عندهم رب كل ما تحت فلك القمر ، لكن ليس مستقلا عندهم ، بل فيضه يتوقف على حصول الاستعدادات والقوابل التي تحصل بحركات [51] الأفلاك ، وتلك الحركات التي فوق فلك القمر ليست منه بل من غيره ، وهذا العقل هو رب البشر عندهم [52] ، ومنه يفيض الوحي والإلهام ، وقد يسمونه جبريل ، وقد يجعلون جبريل ما قام بنفس النبي من الصورة الخيالية ، وهذا كله كلام [53] من أبطل الباطل ، كما قد بسط في موضعه .
لكن المقصود هنا ، وهو تمثيل باطل ؛ لأن المفيض هنا ليس مستقلا بالفيض أنهم يمثلون فيض واجب الوجود بفيض العقل الفعال وفيض الشمس [54] ، بل فيضه متوقف على ما يحدثه غيره من الاستعداد والقبول [55] ، وإحداث غيره له من فعل غيره . فأما رب العالمين فهم يسلمون أنه [56] لا شريك له في الفيض ، ولا يتوقف شيء من فيضه على فعل من غيره ، بل هو رب القابل والمقبول ورب المستعد والمستعد له ، ومنه الإعداد ومنه الإمداد .
[ ص: 343 ] فإذا قالوا بعد هذا : إنه علة تامة أزلية ، وإن فيضه عام لكنه [57] يتوقف على حدوث القوابل والاستعدادات ، إما بحدوث الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية ، وإما بغير ذلك [58] 0
قيل لهم : إن قلتم : هو علة أزلية لهذا الحادث لزم وجوده في الأزل .
وإن قلتم : لا يصير علة تامة إلا بحدوث القوابل
قيل لكم : فإذا كان حدوث القوابل منه فهو المحدث لهما جميعا ، فقبل إحداثهما لم يكن علة تامة لا لهذا ولا لهذا ، ثم أحدثهما [59] جميعا : القابل والمقبول ، فإذا كان أحدثهما [60] بدون تجدد شيء ، لزم أن يكون لم يزل علة تامة لهما أو لم يصر علة تامة لهما ، فيلزم إما قدم هذين الحادثين وإما عدمهما .
فإنه إن لم يزل [61] علتهما لزم قدمهما ، وإن لم يحدث لزم عدمهما ، وأنتم تجعلون علة هذين الحادثين حدثت بعد أن لم تكن ، أي حدثت بتمامها بعد أن لم تكن [62] ، وليس هنا شيء أوجب حدوث التمام [63] ، فإن الفاعل للتمام [64] حالة بعد التمام وحالة قبل التمام [65] سواء ، فيمتنع أن [ ص: 344 ] يكون علة تامة له في إحدى الحالين دون الأخرى ، وكل ما يقدرونه مما حصل تمام العلة [66] هو أيضا حادث عن الأول ، فحقيقة قولكم أن حوادث العالم تحدث [67] ، عنه مع أنه لم يزل علة تامة لها [68] ، أو مع أنه لم يصر علة تامة ، مع أن العلة التامة إنما تكون تامة عند معلولها لا قبل ولا بعد ، وهذا يتقضى عدم الحوادث أو قدم الحوادث ، وكلاهما مخالف للمشاهدة [69] .
ولهذا كان حقيقة قولهم : إن الحوادث تحدث بلا محدث لها [70] ، وقولهم في حركة الفلك يشبه قول القدرية في حركة الحيوان ، فإن القدرية [71] تقول : إن [72] الحيوان قادر مريد ، وإنه يفعل ما يفعل [73] بدون سبب أوجب الفعل ، بل مع كون نسبة الأسباب الموجبة للحدوث إلى هذا الحادث وهذا الحادث سواء ، فإن عندهم كل ما يؤمن به المؤمن ويطيع به المطيع قد حصل لكل من أمر [74] بالإيمان والطاعة ، لكن المؤمن المطيع رجح الإيمان والطاعة بدون سبب اختص به حصل به [75] الرجحان ، والكافر بالعكس [ ص: 345 ] وهذا يقوله [76] هؤلاء في حركة الفلك : إنه يتحرك دائما بإرادته وقدرته من غير سبب أوجب كونه مريدا قادرا ، مع أن إرادته وقدرته وحركاته حادثة بعد أن لم تكن [77] حادثة من غير شيء جعله مريدا متحركا ، فقد حصل الممكن بدون المرجح التام الذي أوجب رجحانه ، وحصل الحادث بدون السبب التام الذي أوجب حدوثه .
ثم إنهم ينكرون على القدرية قولهم : إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح بل بإرادة ( * يحدثها [ هو ] [78] من غير أن يحدث له غيره تلك الإرادة ، ويقولون : إنه أوجب الإرادة بلا إرادة * ) [79] .
وهؤلاء يقولون ما هو أبلغ من ذلك في حركة الفلك ، وهو يناقض أصولهم الصحيحة ، فإذا كانوا يسلمون أن الإرادات الحادثة والحركات [80] الحادثة لا تحدث إلا بسبب يوجب حدوثها ، وأنه [81] عند كمال السبب يجب حدوثها ، وعند نقصه يمتنع حدوثها ، علموا أن ما قالوه في قدم العالم وسبب الحوادث باطل .
فإنه ليس فوق الفلك عندهم سبب يوجب حدوث ما يحدث له من التصورات والإرادات إلا من جنس ما للمخلوق الفقير إلى واجب [ ص: 346 ] الوجود ، ومعلوم أن ما كان بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ، فلا بد أن يكون فوق الفلك ما يوجب حدوث حركته .
وما يذكره أرسطو وأتباعه أن الأول هو يحرك الفلك حركة المعشوق لعاشقه ، وأن الفلك يتحرك للتشبه به ، وأنه بذلك علة العلل وبه قوام الفلك ، إذ [82] كان قوام الفلك بحركته ، وقوام حركته بإرادته وشوقه ، وقيام إرادته وشوقه بوجود [ المحبوب ] [83] السابق المراد الذي تحرك للتشبه به ، فهذا الكلام - مع ما فيه من الكلام الباطل الذي بين في غير هذا الموضع - غايته إثبات العلة الغائية لحركة الفلك ، ليس فيه بيان العلة الفاعلية لحركته إلا أن يقولوا : هو المحدث لتصوراته وحركاته من [ غير ] [84] احتياج إلى واجب الوجود وإلى العلة الأولى في كونه فاعلا لذلك ، كما أن المحب العاشق لا يحتاج إلى المحبوب المعشوق [85] من جهة كونه فاعلا للحركة إليه ، بل من جهة كونه هو المراد المطلوب بالحركة ، وهذا قول باستغناء الحركات المحدثة والمتحركات عن رب العالمين ، وأنه لا يفعل شيئا من هذه الحوادث ولا هو ربها .
فإن قالوا مع ذلك بأنه لم يبدع الفلك بل هو قديم واجب الوجود بنفسه ، لم يكن رب شيء من العالم وإن قالوا : هو الذي أبدعه ، كان تناقضا منهم كتناقض القدرية ، فإن إبداعه لذاته وصفاته يوجب أن لا [ ص: 347 ] يحدث منه شيء إلا بفعل الرب لذلك وإحداثه [ له ] [86] ، كما لا يحدث من سائر الحيوانات حادث إلا بخلق الرب لذلك وإحداثه له . فقولهم متردد بين التعطيل العام وبين التعطيل [87] الخاص الذي يكونون فيه شرا من القدرية [88] ، وردهم إنما كان على القدرية ، وهم خير منهم على كل تقدير .
وقد ذكر [89] ما ذكروه من كلام أرسطو في هذا المقام ، وبين ما فيه من الخطأ والضلال في غير هذا الموضع ، وأن القوم من أبعد الناس عن معرفة الله ومعرفة خلقه وأمره وصفاته وأفعاله ، وأن اليهود والنصارى خير منهم بكثير في هذا الباب ، وهذه أرسطو والقدماء في إثبات العلة الأولى هي طريق الحركة الإرادية حركة الفلك ، وأثبتوا علة غائية كما ذكر . الطريقة التي سلكها
فلما رأى وأمثاله من المتأخرين ما فيها من الضلال عدلوا إلى طريقة الوجود والوجوب والإمكان ، وسرقوها من طريق ابن سينا [90] المتكلمين المعتزلة وغيرهم ، فإن هؤلاء احتجوا بالمحدث على المحدث ، فاحتج أولئك بالممكن على الواجب وهي طريقة تدل على إثبات وجود واجب ، وأما إثبات تعيينه فيحتاجون فيه إلى دليل آخر ، وهم سلكوا [91] [ ص: 348 ] ، وهي أيضا مسروقة من كلام طريقة التركيب المعتزلة ، وإلا فكلام أرسطو في الإلهيات في غاية القلة مع كثرة الخطأ فيه ، ولكن وأمثاله وسعوه وتكلموا في الإلهيات والنبوات وأسرار الآيات ومقامات العارفين ، بل وفي معاد الأرواح بكلام لا يوجد لأولئك ، وما فيه من الصواب فجروا فيه على منهاج الأنبياء ، وما فيه من خطأ بنوه على أصول سلفهم الفاسدة . ابن سينا
ولهذا كان وأمثاله من المتفلسفة يقولون : إن ابن رشد في الوحي والمنامات وأسباب العلم بالمستقبلات ونحو ذلك هو أمر ذكره من تلقاء نفسه ، ولم يقله قبله المشاءون سلفه ابن سينا . ما ذكره